عظتي على إنجيل قدّاس عيد القدّيسَيْن بطرس وبولس

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
الإخوة والأخوات الأحبّاء في المسيح، تأخذنا قراءات هذا اليوم المبارك، من سفر أعمال الرسل، ورسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس، وإنجيل متى، إلى قلب الحكاية الأولى للكنيسة. لكنّها ليست حكاية ورديّة، بل حكاية محفورة بالأغلال، والدم، والقيود، والموت... والنور.
 
نقرأ اليوم أنّ بطرس كان في السجن، مشدودًا بسلاسل بين جنود، محاطًا بحُرّاس، لا يرى منفذًا. نقرأ عن بولس وهو يكتب من خلف قضبان، يعلن: “أنا أُقدَّم سكيبًا... وقد جاهدت الجهاد الحسن”. هذه ليست بدايات بطوليّة كما يحبّ البعض تصويرها، بل بدايات من الهشاشة، من المطاردة، من الاضطهاد.
ولكن، في قلب هذه الهشاشة، يظهر النور: ملاك الربّ يدخل السجن، السلاسل تسقط، وبولس يكتب: “الربّ أنقذني من فم الأسد”.
 
أيها الأحبّة، قد نقرأ هذه النصوص في قاعات هادئة، في بلدان حريّة وازدهار، وقد نميل – دون أن نشعر – إلى تذويب حدّتها. كأنّ هذه القصص تخصّ زمنًا مضى، زمنًا بعيدًا، لا يشبهنا اليوم.
 
ولكن، إن فعلنا هذا، نكون قد خُنّا الذِّكرى. ولهذا، أريد اليوم أن أقف عند مفهومٍ طوّره اللاهوتيّ الكاثوليكيّ يوهان بابتست متس، وأسمّاه: "الذِّكرى الخطِرة" (dangerous memory).
 
الذِّكرى الخطرة ليست مجرّد تذكُّر للماضي، بل هي تذكُّر يهدّد الحاضر إن كان غافلًا، ويزعزعُ النظامَ إن كان ظالمًا، ويستفزّ ضمير الكنيسة إن سقط في الراحة.
 
واليوم، أستدعي هذه الذِّكرى، لا فقط من نصوص الكتاب المقدّس، بل من دمٍ سالَ قبل أيّامٍ قليلة: في كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في دمشق – سوريا، دخل مهاجمٌ مسلّحٌ أثناء القدّاس، وسط الصلاة، وفجّر نفسه، فسقط ٢٢ شهيدًا، وأصيب العشرات. كانوا، حرفيًّا، في اللحظة التي يقول فيها المؤمنون: “بسلامٍ إلى الرب نطلب”، عندما دوّى الانفجار. بعض الشبّان ارتَمَوا على الإرهابي لحماية من في الكنيسة، وتحولوا إلى أشلاء.
 
أيها الأحبّة، هذا الحدث ليس مجرّد مأساة بعيدة. إنّه ذِكرى خطِرة. يذكّرنا بأنّ الكنيسة، في جوهرها، ليست مشروع راحة، بل جسدٌ يحمل الصليب. يذكّرنا أنّ الحريّة التي نعيشها هنا في أوروبا ليست القاعدة في العالم، بل الاستثناء. ويذكّرنا بأنّ الإيمان لا يُختزل في طقوس، بل يُعاش شهودًا حتى الدم.
 
في خطاب مؤثّر، قال بطريرك أنطاكية يوحنا العاشر – راعي أولئك الشهداء – إنّ ما جرى ليس "حادثًا فرديًّا" بل "مجزرة". لم يتكلّم بخوف، بل بصوتٍ نبويّ، يطلب من الكنيسة أن تُبقي هذا الألم في ذاكرتها، لا لتنتقم، بل لتشهد.
 
ولذلك، أدعوكم اليوم، إخوتي وأخواتي، إلى أن لا نفرح فقط بـ”مجد” بطرس وبولس، بل أن نتذكّر قيودهما، نزيفهما، وحدتهما، وسجنهما.
 
أدعوكم أن تحملوا، في صلاتكم هذا الأسبوع، ذكرى إخوتنا في الشرق، الذين لا يزالون، كما بطرس، في السجن؛ وكما بولس، يُقدَّمون سكيبًا.
وأدعوكم أن تسألوا ذواتكم: هل ذاكرتنا الكنسية لا تزال حيّة؟ هل نعيش إيمانًا مريحًا أم إيمانًا صادقًا؟ هل نعرف أنّ الكنيسة بُنيت على صخرة، نعم، ولكنها صخرة خُتمت بدم الشهداء، لا بامتيازات السلطة؟
 
أحبّتي،
الربّ يسوع وعد بطرس: “أبواب الجحيم لن تقوى عليها”. هذا لا يعني أنّ الكنيسة لن تُضرَب، بل أنّها لن تنهار. فلتكن كنيستنا اليوم أمينة للذِّكرى الخطرة. لا نُحوّلها إلى متحف للقديسين، بل إلى نارٍ تحرق كلّ راحة كاذبة، وتُضيء شهادةً حيّة في وجه عالمٍ كثير النسيان.
آمين.