الأب جون جبرائيل الدومنيكاني
«هذا يومُ حدادٍ على الحكومة»
في مشهدٍ اعتدنا فيه أن تتحوّل المذابح إلى مجرّد مناسبات لإنشاءات إنسانيّة باهتة وحفلات عزاء وطنيّ محفوظة العبارات، خرج البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوم ٢٤ يونيو/حزيران ٢٠٢٥، بخطاب نادر في السياق الكنسيّ العربي. فقد جاء خطابه في جنازة شهداء كنيسة مار إلياس – دويلعة، في دمشق، صرخة نبوية وموقفًا لاهوتيًّا – سياسيًّا صريحًا يتجاوز التطمينات المعتادة.
في العادة، حين تتعرّض كنيسة لاعتداء إرهابي، يخرج بعض رجال الدين، محاطين بالكهنة والمشايخ، يتبادلون الأحضان، ويعلنون أنّ “الأديان جميعها ترفض العنف”، ويستظلون برعاية “الرئيس العظيم، حامي الأقليات”، الذي يتوعّد بالرد. وينتهي المشهد بلقطات إعلامية وعبارات وطنية جوفاء، فيما يُغلق الملف بلا تحقيق ولا محاسبة.
لكنّ البطريرك يوحنا كسر هذا الإطار الرتيب. لم يُجامل، لم يُداور، لم يتخفَّ خلف عموميّات العيش المشترك، بل وجّه خطابًا صريحًا حادًّا سمّى فيه الأمور بأسمائها. سمّى ما جرى "مجزرة"، وكرّر الكلمة مرتين، مؤكدًا أنّها ليست "حادثة فردية"، بل اعتداء على كل سوريا، وعلى الكيان المسيحيّ فيها. وسمّى الضحايا "شهداء الدين والوطن"، رافضًا تسميتهم بـ"القتلى" أو "الذين قضَوا".
ولعلّ أخطر ما جاء في الخطاب سياسيًّا، هو قوله المباشر للرئيس إنّ مكالمة العزاء الهاتفية لا تكفي، وإنّ غياب المسؤولين عن موقع الجريمة أمرٌ مؤسف، باستثناء مسؤولة واحدة حضرت من تلقاء نفسها. وقالها بجرأة: “نحن طيفٌ أساسيّ في هذا البلد… وباقون”. ثمّ ناشده بتشكيل حكومة جديدة "تتحمّل أوجاع شعبها"، متسائلًا بصراحة: “الشعب جائع... الناس تدقّ باب الكنيسة وتطلب ثمن ربطة خبز!”، وأضاف: “نحن مددنا أيدينا لبناء سوريا الجديدة، وما زلنا ننتظر يدًا تمتد إلينا”.
الخطاب أيضًا لم يكن انتقاميًّا، ولا خطاب سلام مدجّن. لم يطالب بالثأر، ولم يتورّط في صيغ "المسامحة قبل العدالة"، لكنه في الآن ذاته لم يسعَ إلى خطاب تعبويّ طائفي. لقد اختار أن يُعلن قوّة الكنيسة في الصمود: كنيسة الشهداء، لا كنيسة الخوف. كنيسة تتابع المسيرة، لا تهرب من المجازر.
في هذا السياق، ذكّر البطريرك بخطف مطراني حلب، بولس ويوحنا، وبالراهبات والرهبان الذين تعرّضوا للاعتداء والخطف سابقًا، ليضع المجزرة الأخيرة ضمن سياق متواصل من استهداف الوجود المسيحيّ. ومع ذلك، لم ينادِ بالعزلة أو بالخوف، بل أعلن ثقةً لاهوتية تقول: "لا نخاف"، و"هم أحياء في النور الإلهي".
لاهوتيًّا، يستند الخطاب إلى لاهوت الشهادة والقيامة: فالشهداء، بحسب تعبيره، لم يموتوا بل "انتقلوا إلى من أحبّوا"، بعد أن سقطوا في لحظة صلاة، في القداس الإلهي. وهكذا يحوّل البطريرك المجزرة من مأساة دامية إلى أيقونة كنسيّة حيّة، تعبّر عن الكنيسة المتألمة، الثابتة، التي تحيا بقوّة من شهدائها.
لكنّه أيضًا لا يُغفل السياق الإسلاميّ السوري. ففي لحظة مفصلية من الخطاب، يعلن: "لكانوا فعلوا الأمر ذاته لو كانوا في مسجد" — مشيرًا إلى أن البطولة لا تُختصر بهوية دينية، بل في التضحية والمحبة. بهذا، يتجاوز الخطاب الانغلاق الطائفي، دون أن يذيب الحقيقة في المجاملة.
إنّ هذا الخطاب، في زمن تتواطأ فيه الكنائس أحيانًا مع الصمت، أو تُدجَّن لصالح “الاستقرار”، يُعدّ وثيقة نادرة في الخطاب المسيحيّ العربيّ المعاصر. وثيقة تقول إنّ الكنيسة لا تُقاس بعدد ممثليها في الحكومة، بل بقدرتها على أن تشهد للحق، حتى في وجه الموت.
هل سيمرّ هذا الخطاب مرور الكرام؟
ربما. لكنّه سيبقى علامة مضيئة في ليل طويل من التواطؤ، وشهادة على أنّ الكنيسة، حين تكون وفيّة لربّها، يمكنها أن تتكلّم بلغة الشهداء، لا بلغة البلاط.
الصورة: البطريرك الأرثوذكسي يوحنا العاشر محاطًا ببطريك السريان الكاثوليك وبطريرك الروم الكاثوليك وفي صورة أخرى بطريرك السريان الأرثوذكس
الأب جون جبرائيل الدومنيكاني