(سَفِيرُ النَّحْتِ الْمِصْرِيِّ الَّذِي لَمْ يُعْلِنُوهُ)

بقلم: أَيْمَن فَايِز 
 فَنَّانٌ تَشْكِيلِيٌّ وَكَاتِبُ إِيقُونَةٍ بِيْزَنْطِيَّةٍ
 بداية الحكاية: لقاءٌ بين إِيقونةٍ وصخرة
لَقِيْتُهُ حِينَ كَانَ الجَمَالُ يُلَمْلِمُ أَجْنِحَتَهُ فِي مِصْر
في نهايات عام 2007،
كنتُ أبحثُ عن معنى الضوء بين ضربات الفرشاة وطبقات التذهيب،
أرسمُ الإيقونة لا بوصفها رسمًا، بل انكشافًا،
وأُخرِج بعض البرامج، لا طمعًا في حضور، بل تدريبًا على النظر.

في هذا الهامش الصامت، التقيتُ نَاثَان دُوس،
ولم يكن اللقاء مصادفة، بل استدعاءً روحيًّا من أعماق الصعيد.
هو من قرية دير البرشا بالمنيا، وأنا من طهطا بسوهاج، كلاهما من الجنوب المجبول بالصمت والكبرياء،
حيث النَفَس المصريّ القديم لا يُنسى، بل يُورَث في الحجارة والماء.
الصعيديّ لا يحتاج تعريفًا.

كُنّا نعرف بعضنا كما يتعرّف الحجر على نقشِهِ،
وكما يعرف الطينُ يدَ من خلقه.
نَاثَان... يَدٌ لا تُظْهِرُ الفَضْل، بَل تَزْرَعُهُ
حين علم بأنّ إحدى القنوات تبحث عن مخرج ومونتير،
لم يتردد. لم يشترط. لم يُلوّح بمنّة.

بل دعاني، ورشّحني، كما لو أنّ اسمي هو اسمه، وطريقي هو طريقه.
وهكذا بدأت رحلتي إلى القاهرة… إلى الإخراج…
لكن الأهم: إلى فَهْم معنى "الفنّ كَكَرَم".

منذ ذلك اليوم، صرنا لا نَصْحَبُ بعضنا، بل نَصْحَبُ المعنى ذاته.
هو في محرابه من رخام وبرونز، وأنا في ألوان الذهب والروح،
كأنّنا كنا نعيدُ كتابة الفنّ المصريّ خارج كتب المؤسسات.

وَفِي كُلِّ تِمْثَالٍ... رَمَّمَ نَاثَان ذَاكِرَةَ الْوَطَنِ
عملنا سويًّا على أفلام وثائقية عن حياة ناثان (فنان من شرق النيل)،
 وعن مؤرخ السينما المصرية فريد المزاوي (راهب في محراب السينما) 
وعرض تكريمًا بمناسبة الذكري المئوية لميلاده بالمركز الكاثوليكي المصري للسينما.
كنتُ أُخرِج بالكاميرا، وكان هو يُخرِج الزمن من الصخر.

وفي الخلفية، كانت موسيقى فريد الأطرش تشدو: "عِش أنت"،
كأنّ الفنّ ينادي الفنّ، والشاهد ينحت الشهادة.

وكم من مرّة كنت أراه في ورشته – لا يَعرض أعمالًا، بل يَعرِض نفسه،
ينحت وجه مصر وهي خجلي،
وينحت أسماءنا في ذاكرة لم تعُد تحفظ إلا الزائل.
لم يكن ناثان وحده رفيقي في هذا الدرب المنحوت بالصبر،
كان هناك ثالثٌ، صامتٌ كجذور النيل،
فنانٌ من طينةٍ قديمة: عدلي رزق الله،
ابنُ "إبنوب الحمّام" بأسيوط،

ذاك الذي حمل الجنوب في ريشته، وكتب اسمه على جدران باريس،
قبل أن تلتفت إليه مؤسسات بلاده — إن التفتت أصلًا.
هو أيضًا تجاهلته الدولة،
فأكمل طريقه عاليًا، مثل برقٍ عبر صعيدٍ لا يعرف الانحناء.
أخذتُه ذات يومٍ إلى معرض ناثان،
كان ذلك أكثر من زيارة،

كان لقاء جبلَين من الجنوب في محراب البرونز.
وقف عدلي صامتًا أمام تماثيل ناثان كما يقف ناسكٌ أمام معبدٍ قديم.
تأمّل... قرأ الخطوط والكتل كما تُقرأ المخطوطات المقدّسة،

ثم التفت إليّ وقال، وفي صوته نبرة اليقين:
    "هذا الشاب... لا يُكمّل سطرًا في تاريخ النحت المصريّ، بل يكتب فصلًا جديدًا بعد مختار وآدم حنين."
قالها ومضى،

لكن صدى كلمته ظلَّ يرنّ كجرسٍ نحتيٍّ في ذاكرتي:
أننا أمام فنانٍ لا ينتمي للجيل فقط، بل للعُمْق. هكذا رأيناه، نحن الذين من الجنوب،
نعرف أن الموهبة لا تحتاج وسامًا، بل تحتاج تربة،
وأن بعض الفنانين لا يَعرضون أعمالهم، بل يعرضون نفوسهم مُتجسِّدةً في البرونز.
مَجْدِي يَعْقُوب وَنَاثَان دُوس: عَبْقَرِيَّتَانِ تَجَاوَزَتَا نَكْرَانَ الْوَطَنِ
يا مِصْر،
ألا تَذْكُرِينَ ذاك اليافع الذي مضى إلى بريطانيا لأنّكِ لم تَسمَعِي دَقَّاتِ قلبه؟
ذاك الذي لم تمنحيهِ وسامًا، ولا مؤسّسة، ولا حتى التفاتة،
فخرج دون ضجيج، وعاد ليصنع أعظم صَرْحٍ لِعِلاجِ القلوب في الجنوب!
ذاك الذي أحبّكِ رغم التجاهل، وصار رسولًا للعطاء واسمه مَجْدِي يَعْقُوب!
اليوم، نَاثَان دُوس هو التَّجَلِّي النَّحْتِيُّ لهذه المأساة النبيلة.
لم يطلب دعوة، ولا منصبًا، ولا إعلانًا.

لكنّه – مثل يعقوب – نَحَتَ مجدَه في صخرٍ صامت،
وظلّ قابضًا على مِصر القديمة كما يقبض الطبيبُ على قلبٍ ينبض فوق حافة الموت.
الفرق أن يعقوب أنقذ القلوب،
وناثان أنقذ الذاكرة!

يعقوب رمّمَ الحياةَ بالأمل،
وناثان رمَّم الهويّةَ بالأزاميل.
كلاهما صَنَعَ معجزته رغم التجاهل،
وصار سفيرًا للعظمةِ المصريّة دون إعلانٍ رسميّ.

في تمثال يعقوب... لم يُجسِّد طبيبًا، بل ضميرًا
حين نحت ناثان تمثال الدكتور يعقوب، لم يكن يصنع مجرّد تمثالٍ لطبيب،
ناثان لم يُجسّد إنسانًا، بل وثَّق معدنًا نادرًا اسمه "الكرامة المصرية".

بل كان يُقيم شاهدًا على مفارقةٍ قاسية:
أنّ مصرَ تعرفُ أبناءها بعد أن يكتشفهم العالم!
حين تجاهلته الوزارة… كان هو يصنع ما لم تفكّر فيه الوزارة
في وطنٍ يتقن الاحتفال بمن تُسلِّط عليه الكاميرا، ويغفل عن الذين يُنقذون الذاكرة من النسيان،
تجاهلت وزارة الثقافة نَاثَان دُوس،

لم تُكرِّمه، لم تدعُه، لم تُدخِل اسمه في قوائم الفائزين ولا المدعوّين…
لكنّه – رغم صمّتها – مضى يصنع ما لم تفكّر فيه هي أصلًا.

لم يطلُب إذنًا من وزارة، ولم ينتظر دعمًا، بل قال للصخر:
«لن أنحت جسدك إلا إذا شعرتُ أن الوطن بداخلك حيّ!»
فبينما كانت المكاتب تُراجِع أسماء «المرشَّحين للتكريم»،
كان نَاثَان في محرابه بمِصر القديمة ينحتُ تمثالًا خرافيًّا لـ السير الدكتور مَجْدِي يَعْقُوب.
لم يكن قد أُطلِق عليه لقب "فارس الإنسانية" بعد،
ولا كانت الدولة قد استيقظت بعد من غفلتها عنه.
لكن ناثان، بنبوءة الفنّان الصادق،

رأى في يعقوب ما لم تره الوزارات:
رأى ذاكرة، ورأى قداسة العمل الصامت، ورأى أنَّ النُّبْلَ لا يحتاج منصبًا كي يُخلَّد.
فصاغ تمثالًا ليس فيه بهرجة، بل فيه وضوح الطِينة المصريّة حين تُحبّ وتُخلص.
نَحَتَ مجدي يعقوب في صمتٍ… بينما كانت الوزارة تُجَمِّل كلماتها عن التكريم.
أليس مُدهشًا أن الذي نحت تمثالًا لإنسانٍ تجاهلته الدولة،
تجاهلته الدولة أيضًا؟!

أليس من المُخجل أن يكون صانع التمجيد مَنسِيًّا،
بينما تتصدّر صورته أعمالًا لم يُدعَ حتى لحضور افتتاحها؟
وفي "كليوباترا"، لم يستعد مَلِكة، بل استدعى مصر المغتربة في أبنائها.
كلّ عملٍ له عبارة نحتيّة تُكتب بالصمت: "هنا يتجلّى الكبرياء المصريّ خارج الضوء الرسميّ."

لماذا لا نُعلنه "سفير النحت المصري"؟
ناثان لا يريد لقبًا، لكن مصر بحاجة لأن تعترف بما فقدت.
تحتاجه أكاديميات الفن، كي تتعلّم أن الصمت أبلغ من ألف بيان.
تحتاجه الصحافة، لتتذكّر أن "من لم يُكرَّم في وطنه، قد يصبح شاهدًا على انحداره".
رسالة إلى من لا يسمعون... قبل أن يصير "رمزًا عالميًّا من أصل مصري"
أيّها المسؤولون،

ألم تتعلّموا من تجاهلكم السابق لــ يعقوب؟
ألن تفيقوا قبل أن تقرأوا اسم ناثان دوس في مُتحف المتروبوليتان بنيويورك أو بيناليّ فينيسيا
وهو يُقدَّم كـ "العبقري الصامت من مصر"؟
الآن... قبل أن يفوت الأوان
في زمنٍ تُدفَن فيه الهويّات تحت رُكام الشُّهرة اللحظيّة،
يبقى ناثان صوتًا غير ملوّث، وصورةً مصرية بلا رتوش.
هو تمثالٌ لا يتحرّك، لكنّه يُحَرِّك الضمير.

ولو سألناه:
"ما الذي منحك القوة وسط التجاهل؟"

لأجاب:
«أنا ابن النيل… وسليل من نحتوا الزمن.
أنتمي لمجدٍ لا يجيء بقرار، بل يُصنع بإزميل الصبر!»
يا مصر... أنصتي الآن قبل أن تُصبحي متأخرة على أبنائكِ من جديد
ناثان دوس لا يُصنع في ورشة، بل في ذاكرة أُمّة.

لا يُكرَّم بميدالية، بل يُكرَّم حين تعرفه البلاد وتستعيد به احترامها لفنّها وأبنائها.
هذا هو نَاثَان دُوس… النحّات الذي سبق مؤسّسات الدولة إلى تكريم أحد أعظم أبنائها،
لكنّه ظلَّ، هو نفسه، مُعلّقًا على هامش النشرات، لا تسأل عنه وزارة الثقافة،
ولا تكتب اسمه على مائدة الاحتفاء،
كما لو أنّ الخلود يُهدَى لمن يصفّقون، لا لمن ينحتون!