كتب - محرر الاقباط متحدون
في لقائه بأساقفة العالم خلال يوبيل الرجاء، دعا البابا لاوُن الرابع عشر رعاة الكنيسة لكي يجدّدوا ذواتهم في المسيح الراعي الصالح، ويكونوا رجال إيمان ورجاء ومحبة، يرافقون شعب الله بقلب مُنفتح وحياة متّحدة بالرب.
من قلب الكنيسة الجامعة، وفي إطار يوبيل الرجاء، التقى قداسة البابا لاوُن الرابع عشر بأساقفة العالم، كأخ بين إخوة، وراعٍ بين رعاة، وفي لحظةٍ روحية سامية أعاد الأب الأقدس تسليط الضوء على جوهر الدعوة الأسقفية: أن تكون شهادة حيّة للرجاء المتجذّر في الله، ومرآة لقلب المسيح الراعي الصالح. قال البابا لاوُن الرابع عشر أقدّر وأُعجب بالتزامكم للمجيء إلى روما كحُجّاج، وأنا أعلم كم أن متطلبات الخدمة الراعوية ملحّة وثقيلة. ولكن، كل واحد منكم، مثلي، قبل أن يكون راعيًا، هو خروف من خراف قطيع الرب! ولذلك، فنحن أيضًا، بل نحن أولًا،مدعوّون لعبور الباب المقدس، رمز المسيح المخلّص. ولكي نقود الكنيسة التي أُوكلت إلينا، علينا أن نسمح له، هو الراعي الصالح، أن يجدّدنا في العمق، لكي نتشبّه تمامًا بقلبه، وبسرّ محبته.
تابع الأب الأقدس يقول إنَّ "الرَّجَاءُ لَا يُخيِّب". كم من مرة ردد البابا فرنسيس كلمات القديس بولس هذه! لقد أصبحت بمثابة شِعار له، حتى إنه اختارها في افتتاح المرسوم الذي أعلن به سنة اليوبيل هذه. ونحن الأساقفة، نحن أول من ورث هذه الوصيّة النبوية، وعلينا أن نحفظها وننقلها لشعب الله، بالكلمة وبالشهادة. أن نُعلن في بعض الأحيان، أنّ الرجاء لا يُخيِّب يعني أن نسير عكس التيار، بل وأن نخالف ما يبدو واضحًا في الواقع، من أوضاع أليمة بدون مخرج.
لكن، في تلك اللحظات بالذات، يظهر بوضوح أنّ إيماننا ورجاءنا لا ينبعان منّا، بل من الله. وعندها إذا كنّا قريبين حقًا من المتألمين ومتضامنين معهم، يمكن للروح القدس أن يُنعش في القلوب شعلة الرجاء، حتى لو كانت قد شارفت على الانطفاء. أيها الأعزاء، إنَّ الراعي هو شاهد للرجاء بحياته المتجذّرة في الله، وبعطائه الكامل في خدمة الكنيسة. ويتحقّق ذلك بمقدار ما يتّحد بالمسيح، في حياته الشخصية وفي خدمته الرسولية: عندها يُشكّل روح الرب طريقة تفكيره، ومشاعره، وتصرفاته. لنتوقّف معًا عند بعض السمات التي تميّز هذه الشهادة.
أضاف الحبر الأعظم يقول أولًا، الأسقف هو المبدأ المنظور لوحدة الكنيسة الخاصة المُوكلة إليه. ومهمته أن يضمن أن تُبنى هذه الكنيسة في شركة حقيقية بين جميع أعضائها ومع الكنيسة الجامعة، من خلال تقدير مواهبها المختلفة وخدماتها المتنوّعة، من أجل نمو الجميع ونشر الإنجيل. وفي هذه الخدمة، كما في سائر رسالته، يمكن للأسقف أن يتكل على نعمة إلهية خاصة أُعطيت له في السيامة الأسقفية: فهي تعضده كمعلم للإيمان، ومقدِّس، ومرشد روحي؛ وتحرّك تكرُّسه من أجل ملكوت الله، وخلاص النفوس الأبدي، وتحويل التاريخ بقوة الإنجيل.
تابع الأب الأقدس يقول أما الجانب الثاني الذي أودّ التأمل فيه، انطلاقًا من المسيح كصورة لحياة الراعي، هو ما يمكن أن أُسمّيه: الأسقف كرجل حياة لاهوتية. وهذا يعني: إنسان منفتح تمامًا على عمل الروح القدس، الذي يُولِّد فيه الإيمان والرجاء والمحبة، ويُغذّيهما كالنار المشتعلة، في مختلف ظروف الحياة. إنَّ الأسقف هو رجل إيمان.
وهنا، يبادر إلى ذهني ذلك النص الرائع من الرسالة إلى العبرانيين (الفصل ١١)، حيث يسرد الكاتب، بدءًا من هابيل، سلسلة من "شهود" الإيمان؛ وأفكّر بشكل خاص بموسى، الذي، إذ دعاه الله لقيادة الشعب نحو أرض الميعاد، يقول النص: "ثبَتَ على أَمْرِه ثُبوتَ مَن يَرى ما لا يُرى". ما أجمل هذا الوصف لرجل الإيمان: هو الذي بفضل نعمة الله يرى أبعد من الحاضر، يرى الهدف، ويثبت وقت المحنة. لنفكّر في المرات التي كان فيها موسى يتشفّع للشعب أمام الله. هكذا هو الأسقف في كنيسته، الشفيع، لأن الروح يُبقي شعلة الإيمان متقدة في قلبه. وفي هذا الإطار أيضًا،الأسقف هو رجل رجاء، لأن "الإِيمان هو قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى".
لا سيما حين تشتدّ المسيرة على الشعب، فإن الراعي، بفضل الفضيلة اللاهوتية، يُعين الناس لكي لا ييأسوا: لا بالكلام، بل بالقرب منهم. عندما ترزح العائلات تحت أعباء لا تُحتمل، ولا تجد الدعم الكافي من المؤسسات العامة؛ حين يُحبط الشباب وتخيب آمالهم من رسائل كاذبة وخادعة؛ حين يشعر المسنّون وذوو الإعاقات الخطيرة بأنهم متروكون، يكون الأسقف حاضرًا بالقرب منهم، لا ليقدّم حلولًا جاهزة، بل ليقدّم خبرة جماعة تسعى لأن تعيش الإنجيل ببساطة ومقاسمة.
أضاف الحبر الأعظم يقول وهكذا، يتّحد في الأسقف، إيمانه ورجاؤه، كرجل محبّة راعوية. إنّ حياة الأسقف بأسرها، بكلّ ما فيها من تنوّع وتعدّد في الأدوار والخدمات، تجد وحدتها العميقة في ما دعاه القديس أوغسطينوس: وظيفة المحبّة(amoris officium) . في هذا الجوهر تتجلّى حياته اللاهوتية بأقصى درجاتها. ففي الوعظ، وفي الزيارات الرعوية للجماعات، وفي الإصغاء للكهنة والشمامسة، وفي القرارات الإدارية، كل شيء فيه تحرّكه وتدفعه محبة يسوع المسيح. وبنعمته، التي يستقيها الأسقف يوميًا من الإفخارستيا والصلاة، يعطي مثالاً حيًّا للمحبّة الأخوية تجاه معاونه أو الأسقف المساعد، وتجاه الأسقف المتقاعد، وسائر أساقفة الأبرشيات المجاورة، كما تجاه أقرب معاونيه، وحتى تجاه الكهنة الذين يمرّون بصعوبات أو يعانون من المرض. لأن قلبه هو مفتوح ومضياف، وهكذا هو بيته أيضًا. أيها الإخوة الأعزاء،
هذه هي النواة اللاهوتية لحياة الراعي. وإلى جانبها، وبدفع من الروح نفسه، أرغب في أن أُبرز بعض الفضائل الأخرى التي لا غنى عنها: كالحنكة الراعوية، والفقر الإنجيلي، والعفّة الكاملة في البتوليّة، إضافة إلى الفضائل الإنسانية.
تابع الأب الأقدس يقول إنَّ الحنكة الراعوية هي حكمة عملية، تُمكّن الأسقف من اتخاذ القرارات الصائبة في القيادة، وفي علاقاته مع المؤمنين ومع جماعاتهم. وعلامة ساطعة على هذه الحكمة تكمن في ممارسة الحوار كنهج وأسلوب في العلاقات، وحتى في ترؤّس الهيئات التشاركية، أي في تفعيل مبدأ السينودسية في حياة الكنيسة الخاصة. وفي هذا المجال، قادنا البابا فرنسيس خطوة متقدمة، عبر إصراره بحكمة تربوية على أن السينودسية هي بُعد جوهري من حياة الكنيسة. والحنكة الراعوية تتيح للأسقف أن يقود الجماعة الأبرشية، فيوفّق بين تقدير التقاليد التي تشكّلها، والانفتاح على سُبُل ومبادرات جديدة. ولكي يشهد للرب يسوع، يعيش الراعي الفقر الإنجيلي. فيتّسم أسلوب حياته بالبساطة والاعتدال والسخاء، في مظهر كريم يراعي أوضاع غالبية شعبه. يجب أن يشعر الفقراء بأنهم أمام أب وأخ، لا أن يرتبكوا عند لقائه أو الدخول إلى بيته. فهو شخص متحرّر من التعلّق بالمال، ولا يستسلم أمام المحاباة الناجمة عن الغنى أو النفوذ. كذلك لا يجب على الأسقف أن ينسى أبدًا أنه، على مثال يسوع، قد مُسِح بالروح القدس وأُرسِل ليُبشّر المساكين.
أضاف الحبر الأعظم يقول بالإضافة إلى الفقر الفعلي، يعيش الأسقف أيضًا شكلًا آخر من الفقر، هو العفة والبتولية من أجل ملكوت السماوات. ولا يُختزل ذلك بمجرد العزوبية، وإنما بعيش طهارة القلب والسلوك، ليحيا هكذا في اتِّباع كامل للمسيح، ويقدّم للجميع صورة حقيقية عن الكنيسة، الطاهرة المقدسة في أعضائها كما في رأسها. كذلك عليه أن يكون حازمًا وألا يتهاون في مواجهة ما قد يكون سبب عثرة، لاسيما في حالات الاعتداءات، وخصوصًا تلك التي إزاء القاصرين، متقيّدًا بالتوجيهات الكنسية المعتمدة. وأخيرًا، يُدعى الراعي لكي ينمّي تلك الفضائل الإنسانية التي أشار إليها أيضًا آباء المجمع المسكوني في مرسوم Presbyterorum Ordinis، والتي لها، بل وأكثر من غيرها، دور مهم في خدمة الأسقف وفي علاقاته يمكن أن نذكر منها: الأمانة، الصدق، السخاء، انفتاح العقل والقلب، والقدرة على الفرح مع الفرحين والبكاء مع الباكين؛ وكذلك ضبط النفس، الرقة، الصبر، التحفّظ، الاستعداد الدائم للإصغاء والحوار، والاستعداد والجهوزيّة للخدمة. وهذه الفضائل، وإن كانت تتفاوت فينا طبيعيًا، إلا أننا نستطيع – بل يجب علينا – أن نُنمّيها تشبُّهًا بيسوع المسيح، وبنعمة الروح القدس.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر كلمته بالقول أيها الأعزاء، لتنَل لكم شفاعة العذراء مريم والقديسَين بطرس وبولس، كل النعم التي تحتاجونها أنتم وجماعاتكم. وليساعدوكم بشكل خاص لكي تكونوا رجال شركة، وتُعززوا على الدوام الوحدة بين كهنة الأبرشية، لكي يشعر كل كاهن، بلا استثناء، بأبوّة الأسقف وأخوّته وصداقته. إنّ روح الشركة هذا هو الذي يشجّع الكهنة في التزامهم الراعوي، ويساهم في تنمية وحدة الكنيسة الخاصة. أشكركم على ذكركم لي في صلواتكم! وأنا أيضًا أصلّي من أجلكم وأبارككم من كل قلبي.