(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
لكي نفهم معًا بضعةَ محاورٍ من الشّهر الأوّل من حبريّة البابا لاوُن الرَّابع عشر، حاولتُ تقديم –على حَلَقَاتٍ مُتَسَلْسِلَة، وهذه هي الحَلَقَة الرّابعة والأخيرة– عناصر وموضوعات متنوّعة وبارزة في هذا الشّهر المنصرم، مستعينًا بحزمةٍ من أقواله ذاتها.
 
ثامنًا: المسيرةُ المسكونيّة والحوارُ بين الأديان
الكنيسة الكَاثوليكيّة، بفضل إصغاءها لنفحات الرّوح القدس وقراءتها لعلامات الأزمنة، لهي رائدةٌ ومتمرِّسة وخبيرة في "ثقافة الحوار" بشتّى أنواعه وطرقه. فكبرهان لهذا تكفي قراءة سريعة لوثائق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965)، والمجلّدات العديدة عن الحوار المسكونيّ بين الكنيسة الكَاثوليكيّة والكنائس والجماعات المسيحيّة الأُخرى من جهةٍ، وحوارها مع الأديان غير المسيحيّة من جهةٍ أُخرى.
 
وعلى صعيدٍ آخر، في سياق الأخوّة الإنسانيّة الشّاملة والمسيرة المسكونيّة والحوار بين الأديان (أهمّ سمات حبريّة مثلّث الطّوبى البابا فرنسيس)، أظهر البابا لاوُن الرّابع عشر، منذ أحاديثه الأُولى، ولا سيّما في كلمته الموجّهة إلى ممثِّلي الكنائس الأخرى والجماعات الكنسيّة والأديان الأخرى (19 مايو/أيَّار 2025)، انفتاحَ الكنيسة الكاثوليكيّة على الكنائس والأديان الأخرى وأتْباعها؛ فقال صراحةً: 
 
«في الواقع، كانت وَحدة المسيحيّين هاجسًا دائمًا في قلبي، كما يشهد على ذلك الشّعار الذي اخترته لخدمتي الأسقفيّة: "في الواحد، نصير واحدًا"، وهو تعبير للقدّيس أغسطينس أسقف عنابة، الذي يُذكّرنا، مع كوننا كثيرين، بأنّنا "في الواحد –أي المسيح– نحن واحد" (تأمّلات في المزامير، 127، 3). شركتنا وَوحدتنا تتحقّق بقدر ما نتّحد في الرّب يسوع. وكلّما كنّا أكثر أمانة وطاعة له، ازددنا اتّحادًا فيما بيننا. لذلك، بكوننا مسيحيّين، نحن مدعوّون جميعًا إلى أن نصلّي ونعمل معًا لبلوغ هذه الغاية خطوة خطوة، ويبقى بلوغ هذه الغاية من عمل الرّوح القدس. وإذ أُدرك أنّ السّينوديّة والمسكونيّة مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، أودّ أن أؤكّد عزمي على مواصلة التزام البابا فرنسيس في تعزيز الميزة السّينوديّة في الكنيسة الكاثوليكيّة، وفي تطوير أشكال جديدة وعمليّة من السّينوديّة لزيادة وترسيخ العمل في المجال المسكوني. ويمكننا بل يجب علينا أن نفهم مسيرتنا المشتركة أيضًا بمعناها الواسع، الذي يشمل الجميع، في روح الأخوّة الإنسانيّة التي أشرتُ إليها أعلاه. اليوم هو زمن الحوار وبناء الجسور. ومن ثمّ، يسعدني وجود ممثّلي التّقاليد الدّينيّة الأخرى، الذين يشاركوننا في البحث عن الله وعن إرادته، التي هي دائمًا وأبدًا إرادة محبّة وحياة للبشر جميعًا ولكلّ الخليقة».
 
وفي ما يتعلّق بالوحدة بين المسيحيّين بنوعٍ خاصّ، أوضح البابا لاوُن الرّابع عشر ما يلي: «بنور وقوّة الرّوح القدس، لِنَبْنِ كنيسة قائمة على محبّة الله وعلامة على الوَحدة، كنيسة مُرسَلَة، تفتح ذراعيها للعالم، وتُبشِّر بالكلمة، وتسمح للتّاريخ بأن يقلقها، وتصير خميرة انسجام ووفاق للبشريّة. لِنَسِرْ معًا، شعبًا واحدًا، كلّنا إخوة، للِقاء الله، ولنُحبَّ بعضنا بعضًا».
 
تاسعًا: الكنائسُ الشّرقيّة والمؤمنون الشّرقيّون
يُطلَق على الكنائس الشّرقيّة التي دخلت في ملء الشّركة مع كنيسة روما، "الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة". ولا ينبغي لها من جرّاء ذلك أن تتنكّر للأمانة لتقاليدها العريقة، وتتنصَّل منها؛ بل، من حقّها وواجبها المحافظة عليها بأمانةٍ للماضي وبانفتاحٍ على الحاضر. وقد أكّد على ذلك المجمعُ الفاتيكانيّ الثّاني وباباوات الكنيسة أجمعين، ولا سيّما مثلّثُ الطُّوبى البابا يوحنّا بولس الثّاني (1920-2005)، في رسالته الرّسوليّة "نور الشّرق" (1995)، ومثلّثُ الطُّوبى البابا بِنِديكْتُس (1927-2022)، في إِرشاده الرَّسوليّ "الكنيسة في الشَّرقِ الأوسط (2012). وفي هذا الصّدد، هذه هي كلمات البابا يوحنّا بولس الثّاني، في رسالته الرّسوليّة "نور الشّرق"، الصّادرة في الذّكرى المئويّة الأُولى لرسالة البابا لاوُن الثّالث عشر الرّسولية "كرامة الشّرقيّين" (1894): 
 
«لقد أُعلن تكرارًا ومرارًا أنّ الوحدة التي سبق وتمّت بين الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة وكنيسة روما، يجب ألّا تولّد عندها انتقاصًا لوعي أصالتها الحقّة وابتكارها. وحيثما حصل ذلك، عمل المجمع الفاتيكانيّ الثاني على تحريضها لتعود فتكتشف كليًّا هويّتها، إذ إن تلك الكنائس "من حقّها وواجبها… أن تحكم نفسها طبقًا لأنظمتها الخاصة بها. ذلك بأنّ هذه الأنظمة هي عريقة في القدم، وهي أكثر تلاؤمًا مع عادات المؤمنين المنتمين إليها، وأكثر فعاليّةً لتضمن للنفوس نفعًا جزيلًا» (بند 21).
 
إنّها لرائعةٌ للغاية الكلمات المحوريّة التي وجّهها بدوره البابا لاوُن الرَّابع عشر إلي المؤمنين الشّرقيّين أيضًا، من خلال المشاركين في يوبيل الكنائس الشّرقيّة، في الـ14 من شهر مايو/أيَّار لعام 2025! إنّها حقًّا لدعوة مُلحّة للاستيقاظ من غفلتنا وتيهتنا: «أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء في الشّرق [...] استمرّوا وأضيئوا بالإيمان والرّجاء والمحبّة، ولا شيء آخر. لتكن كنائسكم مثالًا، وليُعزّز الرّعاة الوَحدة والشّركة بأمانة، خصوصًا في سينودس الأساقفة، لكي يكون السّينودس مكان شراكة ومسؤوليّة مشتركة حقيقيّة. اهتمّوا بالشّفافيّة في إدارة الخيرات، وقدِّموا شهادة تفانٍ متواضع وكامل من أجل شعب الله المقدّس، دون تعلّق بالمناصب أو بسلطات العالم أو بتمجيد الذّات [...] بهاء الشّرق المسيحيّ يَطلب اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، التّحرّر من كلّ ارتباط دنيويّ ومن كلّ ميلٍ مناقض للوَحدة والشّركة، لكي يكون أمينًا في الطّاعة وفي الشّهادة للإنجيل».