نسيم مجلى

2- كيف ننظر لعناصر التراث فى القصيدة الحديثة؟
         نشرت مقالاً فى مجلة "أدب ونقد – يوليو 1985" بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة الشاعر أمل دنقل تعرضت فيه لقصيدة "كلمات اسبارتاكوس الأخيرة" و فوجئتفى العدد التالى من المجلة بمقال يهاجمنى فيه كاتبه بإسلوب ملئ بمشاعر التعصب والإستعلاء فرددت عليه رداً مستفيضاً حرصت فيه على الدقة والموضوعية والأدب لأجعل منه درسافى كيفية التحاور بين الدارسين والنقاد، ومحاولة لكيفية النظرة الصحيحة لعناصر التراث فى القصيدة الحديثة. ابتدأته بعتاب رقيق ثم أخذت فى تفنيد ملاحاظاته العديدة واكتفى بذكر مثل واحد منها هنا فقلتأما عن اعتراضه على تفسيرى لقول أمل دنقل:
المجد للشيطان معبود الرياح 
من قال: لا، فى وجه من قالوا: نعم ......(1)

         حين يجتزئ الدكتورمصطفى رجب عبارة " نموذج العصيان القاطع فى وجه جمهرة الخائفين " ثم يقفز إلى أن المقصود بمجمهرة الخائفين هم الملائكة، ثم ينبرى للدفاع عن الملائكة وعن طاعتهم لله ودوافعها، مع أننى لم أذكر الملائكة من قريب أو بعيد، لأن الإهتمام كله مركز على الشيطان كمعادل موضوعى لتمرد بعض الأفراد ضد السلطة المطلقة، أو ضد الطغيان، وهو تقليد أدبى استخدمه الشاعر الألمانى جيته فىمسرحيته"دكتورفوستس" واستعمله الشاعر الإنجليزىمارلوفى مسرحية بنفس الاسم،  واستخدمه الشاعر الإنجليزى ميلتون فى ملحمته "الفردوس المفقود" التى قام بترجمتها أً الدكتور محمد عنانى ... ونفس الشئ فعله العقاد فى قصيدة كبرى باسم "الشيطان" يعدها بعض النقاد أفضل قصائده. 

         فلماذا كل هذا الغمز واللمز والتهديد بإثارة الجدل العقيدى والاتهام – وقول الدكتور مصطفى رجب " إن هذه اللغة من الكاتب من شأنها أن تثيرجدلاًعلى"المستوىالعقيدى لدى المتذوقيين والقراء". فليطمئن الدكتور أن الملحدين لا يعترفون بوجود الشيطان أصلاً ،كجزء من انكارهم لما وراء الطبيعةأى انكارهم لعالم الغيب. والمؤمنون فقط هم الذين يذكرون الشيطان ويذكرون تمرده أورفضه كرمز للشموخ أو العصيان كما يفعل بعض الشعراء، وبناء على ما تقدم لا يكون فيما كتبته سبباً للإثارة أو الإصطياد أو التشكيك،وإدعاء الإيمان الذى هو "ما وقر فى القلب وصدقه العمل" والمزايدة عليه ثم تصيد هذه الأخطاء ليس من مهنة النقاد أبداً.   
       أما قولك على مستوى الفهم الأدبىالراقى المستند إلى رؤية واقعية،بأنتنظر إلى ما رواء النص الشعرى لتفهم ما يريد الشاعران يقوله، وهذا ما فعلته أنا فىدراستى، ولكنك أنكرته على أساس أنه تفلسف – مع إن الفلسفة والتفلسف أمور من طبيعة النقد الأدبى،ويكفى دليلاً على ذلك ان أول من وضع أصول النقد الأدبى هو الفيلسوف "أرسطو" بكتابه "فن الشعر" وما زال فلاسفة علم الجمال والأخلاق والإجتماع يساهمون فى قضايا الفكر الأدبى ومناهج النقد. رفضت كل هذا ورفضت "أن تنظر إلى ما وراء النص الشعرى" حتى ترى الوحدة من خلال التنوع أو ترى التوافق فى الرؤية خلف التناقض الظاهرى، واكتفيت يا دكتور بطرح الألغاز على أنها ملاحظات ،وتهربت تماماً من تقديم وجهة نظرواضحة صريحة حتى أننى وكل من قرأ كلامك لا يعرف ماذا ترفض وماذا تقبل؟ فأنت ترفض أن يكون أمل داعية للتمرد وترفض أن يكون داعية للاستكانة والخنوع، وترفض قولى بأن " الشاعر يستخدم النقيضين ساخراً سخرية مريرة بواقع الإنسان فى مجتمعنا، وبالبدائل المطروحة أمامه. وهو يستخدم هذا الأسلوب الغريب لكى يستوقف قارئه ويستفز مشاعره وعقله حتى يفكر فى مأساة حياته". ( 1)  

            فبناء القصيدة يقوم على المفارقة المركبة التى سماها الدكتور لويس عوض "بلاغة الاضداد" حيث يقول فى مقاله " شعراء الرفض " (الاهرام 7/7/1972) " وهكذا ينتقل أمل دنقل من النقيض إلى النقيض، فالقائل: المجد للشيطان فى أول المنولوج ينتهى بقوله إن كل دمعة سدى. ولكن ما هكذا ينبغى أن يفهم شعر الشعراء، فهناك نوع من التهكم الخفىالذى يقصد إليه الشاعر سواء فى تمجيده لشموخ أعظم العصاة أو فى تبشيره بضرورة الإنحناء والإنهزامية بغير قيد أو شرط، وهذا التهكم الخفى مجسد فى المقابلة يقيمها الشاعر بين الرفض الأعظم والقبول الأعظم، وإلا كانت دعوته فى آن واحد عبادة للشيطان ولعنة على البشر" 

         " هذه طريقة شعراء الرفض إذن فى التعبير عن إحتجاجهم على الواقع المرفوض. هم يؤلبون الطغاة على الطغيان بتمجيد الطغيان .... وهم يؤلبون العبيد على العبودية بتمجيد العبودية وهذه بلاغة الاضداد"  
       وقد تناول الرائد الكبير صلاح عبد الصبور فكرة استشراء الطغيان وسيادته فى رائعته "مسافر الليل" حين يتحول عامل التذاكر إلى طاغية يحكم على الراكب بالموت، ثم يطلب منه أن يكون كبش فداء حتى يهدأ الناس ويستتب الأمن، ولنقرأ معاً هذه السطور لكى يستقيم لنا فهم هذه الفكرة:

عامل التاكر:     لا داعى للشكر 
                  هل تدرى ما معنى فقد بطاقتك الشخصية 
                             معناها أنك لست بموجود 
                             فالسارق قد قتلك 
                            إذ أفقدك تشخصك المتعين 

الراكب:                  سامح جهلى يا مولاى 
                             ما معنى هذه الكلمة؟

عامل التذاكر:   أى أفقدك وجودك 
                            أفهمت 
                            ولهذا حين أقول:
                            أنت قتلت الله 
                            لا أعنى طبعاً أنك – استغفره – قد ....
                            لا لكنى أعنى: أنت سرقت بطاقته 
                            وبهذا يتساوى الأمران.

الراكب:             لكنى لم أفعل شيئاً من هذا قط 

عامل التذاكر:     هذا أمر آخر 
                            نتداول فيه فيما بعد 
                            لكن الموضوع ......
                           إن الله تخلى عن هذا الوادى
                           لا يعطينا شيئاً قط 
                           لا ينظر فى هذه الناحية كما كان 
                           قلنا: ماذا حدث 
                           قالوا: أحدهم قد قتل الله هنا

                          ولهذا فهو يخاصمنا 
                          أعنى – طبعاً – أحدهم قد سرق بطاقته  
                          الشخصية 
                          وانتحل وجوده 

        لا يحتاج هذا الحوار البليغ إلى مزيد من الشرح، فقد أصبح واضحاً الآن أن الطاغية يدعى فى أغلب الأحيان أنه يحكم بتفويض من الله، وبهذا ينتحل صفة الربوبية. وضد هذا الطاغية المتأله يكون التمرد سواء كان التمرد ضد قيصر روما مثل اسبارتاكوس أو قيصر روسيا كقصيدة" ابانا الذىفىبطرسبورج" وليس فىهذه القصائد خروج عن جوهر الإيمان الصحيح بالله باعتباره أساس العدل والحرية فى كل مكان وزمان، لكنه خروج عن مفاهيم دينية ومسلمات تحتاج إلى تحليل وغربلة حتى تستقيم مع منطق العقل السليم،الذى هو مناط التكليف الأساسىفى الشريعة الإلهية. فالخلاف إذن بين مفاهيم ومواقف أيديولوجية بشرية، وليس مع الدين أو الإيمان الصحيح الذى يستقر فى القلب ويصدقه العمل. وفى هذا السياق يمكن أن ننظر لهذه القصائد التى تستلهم النصوص أو الرموز الدينية. 

       وكما تقول عبلة الروينى
" إن قصيدة (مقابلة خاصة مع ابن نوح) لا تشكل خروجاً فقط عن الموروث الدينىالسائد بل تشكل تعديلا وتثويراً لطبيعته حيث يطل ابن نوح فيها متمرداً عصرياً، خارجاً من فكرة العقوق السلفى إلى الثورة". 

         خرج أمل أيضاً على ثقافة الطبقات السائدة والأطر الشرعية الجامدة حين تكتسب رموزها تجسيداً سلطويا ً بل عبثياً باطلا يهبط دائما إلى نتائج خاضعة ......

أبانا الذىفى المباحث 
نحن رعاياك .....باق
لك الجبروت .... وباق لنا الملكوت 
وباق لمن تحرس الرهبوت            
(كتاب " الجنوبى" ص81)  

         إن الفهم الصحيح لهذا الموضوع يفتح الطريق لدراسة العناصر الدينية فى شعر أمل دنقل دراسة نقدية، بعيدة عن تشنج المتعصبين وحساسية السلفيين حتى يتسنى لنا رسم صورة حقيقية لهذا الشاعر العربى الفذ بالتعرف على مكونات ثقاقته، ومعتقداته الأساسية التى ساهمت كمصادر الإلهام الشعرى – ولا خوف من النتائج فمن الواضح وكما تقول زوجته عبلة الروينى: إنه قلق لا يحمل يقيناً ..... تاريخ معتقداته حافل بالعصيان، لكنه غير ملحد. (ص 6).

        والواقع أن السيدة عبلة الروينى تضئ لنا جانباً هاماً من ثقافة أمل وقراءاته المبكرة حين تذكر أنه فى الخامسة عشر من عمره .... اشترى من إحـــدى مكتبــــات مدينـــــة قنا كتابين هما (الفتوحات المكية) و(ألف ليلة وليلة).

       وفى تلك السنوات قرأ العديد من كتب التراث والملاحم والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها بعد ذلك مرات عديدة، يحركه حس تاريخىلإكتشاف الطبقات المتراكمة وراء الحكايات والمعلومات.

ففى قراءته لكتاب ألف ليلة وليلة – كما ذكر يوماً – كان يبحث عن الجزء المصرى فيها والآخر البغدادى والآخر الذى يرجع إلى ممالك تيمورلنك كما وجد رؤية شعبية لها ... إن أغلب أبطال ألف ليلة وليلة تجاراً، حيث شهدت هذه الفترة إزدهاراً لطبقة التجارالذين امتلكوا الحياة الاقتصادية بينما امتلك المماليك مقاليد السلطة. 

       كانت القرءة بالنسبة إليه بحثا واكتشافا. يقرأ عن الإله ( هبل) فيبحث عن امتدادتهفى الحضارات الأخرى، ويعقد مقارنة ودراسة مكتوبة بينه وبين الإله (بيل) عند الكنعانيين، والإله (بعل) عند الآراميين.  ثم يقدم دراسة تاريخية عن قبيلة (قريش عبر التاريخ) ويقوم بنشرها ثم يقوم بإعداد دراسة طويلة عن أسباب نزول القرآن من منظور تاريخيى. رفضت الاهرام نشرها. 

      ظل اهتمامه بالتراث وبأيام العرب والتاريخ الإسلامى يرجع بالاساس إلى محاولته الدائمة للبحث عن هوية – كما أكد دائماً – انطلاقاً من حس عربى وإيمان بأن مصر عربية الروح، عربية الانتماء، وتختم عبلة الروينى هذه الفقرة قائلة:

" ويظل برأى كتاب القرآن الكريم والكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) هم أهم ثلاثة كتب فى ثقافته، تلقى الكثير من الضوء على ابداعه ولغته  
(كتاب "الجنوبى" ص 93) 

        كان أمل دنقل ينظر إلى هذه الكتب فى نطاق التراث العربى، بل يذهب فى رأيه إلى اعتبار التوراة والتراث السامى كله تراثاً عربياُ. كذلك يؤكد الدكتور سيد البحراوى على حرص أمل على عروبة التراث وليس اسلاميته.

        لكن هذا لا يمنع من فرز عناصر هذا التراث، لتحديد دور هذه المؤثرات فى شعره. وقد إتبع الدكتور سيد البحراوى منهجاً صحيحاً فى الفصل بين العناصر التوراتية والعناصر القرآنية فى دراسته لقصيدة (مقابلة خاصة مع ابن نوح) كما بين دور كل عنصر ودلالته فى تشكيل هذه القصيدة. ومن الضرورى تطبيق هذا المنهج بدقة لفرز الرموز والصور المستلهمة من الكتب الثلاثة، وتحديد نصيب كل كتاب فى هذه العملية بدقة.

        لذلك فإننى ما زلت أسعى للحصول على هذه المعلومات من كل المصادر الممكنة، والتى يحتمل أن تفيدنا فى تغطية هذا النقص الخاص بحياة الشاعر أمل دنقل، لذلك استبشرت خيراًُ حين أخبرنى الأستاذ رجاء النقاش بأنه تلقى خطاباً من الأستاذ أنس دنقل، شقيق الشاعر الأصغر، يقول فيه أن لديه الكثير من المعلومات ومن رسائل أمل وهو مستعد لإطلاعنا عليها.     
 
ونصحنى الأستاذ رجاء بالاتصال به ليرسل لى صورة منها. ورحبت بالفكرة وكتبت له خطابا وانتظرت حوالى تسعة أشهر ثم اتصل بى تليفونيا وعرفنى أنه موجود فى القاهرة و فى المساء التقينا في الأتيليه. اهديته نسخة من الكتاب، وعرفت أنه لم يقرأه وإنما رآه مع واحد من الناس. وواضح أنه لم يهتم بما كتب عن أخيه وعن شعره لأنه يعمل محاسباً لا يهتم إلا بالارقام. وهذا ما عرفته من حديثه ً معى. إنه يشكو من شح الناشرين، ثم سألنى عما أريد منه. فقلت أنتطلعنى على صور من رسائل أمل التى تفيد عن تعريفنا بحياته فى السويس والإسكندرية وعن أصدقائه من الشعراء أومن غير الشعراء فى هذه المدن وعن قراءاته التى ساهمت فى تكوين شخصيته وأفكاره وساهمت فى تطوير شعره.

     و ذكرته بما جاء فى خطابه للأستاذ رجاء النقاش فوعدنى بأن يرسل هذه الأوراق قريباً كذلك قال إنه جمع عددا من الأحاديث وقدمها للأستاذ مصطفى  نبيل  فى الهلال لكى تنشر فى كتابً لكنه عاد وسحبها حين عرف أن الدار لن تدفع له أكثر من مائتى جنيه مكافأة وهو يفكر فى نشره على حسابه، وقد شجعته على نشر هذا بأى طريقة حتى يتيح لكل الدارسين لشعر امل فرصة الإطلاع عليه، وطمأنته بأن الكتب لا تدر عائدأ يذكر لمعظم كتاب الأدب فأنا مثلاً لم اتقاض عن كتاب أمل سوى ( 94) أربعاً و تسعين جنيهاً وأربعين قرشاً رغم ما بذلته من جهد ووقت لمدة تزيد عن سنتين . المهم أن الأستاذ أنس دنقل لم يطلب منى ثمناً ووعد بـأن يرسل لى ما طليت ولكنه لم يبر بوعده حتى الآن بعد مرور سنوات طويلة على هذا اللقاء. وعلينا نتيجة لهذا الموقف أن ننتظر سنوات أخرى حتى يتم نشر هذه الأوراق وإخراجها بأى صورة. 

 وكان أول من استجاب لدعوتى هو الدكتور وصفى صادق الذى أرسل إلى "موجز لحياة أمل دنقلفى الإسكندرية " قال فيه:
* فى عام 1960، استلم الشاعر أمل دنقل وظيفته الصغيرة التى تقدم إليها فى جمرك الإسكندرية، تاركا مدينة القاهرة، وأبناء بلدته: الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، والقاص المبدع يحيى الطاهرعبدالله، وكان يناهز العشرين عاماً (من مواليد 1940) بالتحديد.

* ظل طوال فترة عمله بالإسكندرية يقيم بصفة دائمة فىاللوكاندات المتواضعة، وبالتحديد اللوكاندة العثمانية الكائنة بميدان المنشية – فوق مقهى العثمانية – وأحيانا لوكاندة شارع فرنسا.

* كانت الوظيفة بالنسبة له عبودية ضرورية مؤقتة، من أجل رغيف العيش، فقد عاش على الكفاف بعدة جنيهات شهريا، يعانى الحرمان، وشظف العيش والحاجة، كثير التدخين، واحيانا يشرب الخمر.

* وكان يسهر كل ليلة فى مقهى النيل الكائن حتى الآن بميدان المنشية، وقد كان المقهى وقتئذ ملتقى الشعراء والأدباء على اختلاف مشاربهم، وكان يصغرهم فى السن وهؤلاء كانوا:

(د. حسن ظاظا، والأساتذة:عبد الرحمن الأنصارى، عبد العليم القبانى، محمود العتريس، أحمد السمرة، فوزىالميلادى، وعبد القادر العوا، والسقا الشناوى)، والأخيران قد توفيا منذ فترة.

* في عام 1962 انضم إلى هذه الكوكبة طالبان بكلية الصيدلة بالإسكندرية هما: وصفى صادق مينا ومصطفى سليم قويدر، والسيد الشرنوبى الطالب بكلية الآداب (والذى توفى عقب تخرجه بسنوات فى ريعان شبابه). 

وكان الشاعر أمل دنقل عضوا فى جماعة نشر الثقافة –فى أيامها الأخيرة - وكان يلقى الشعر مع غيره من شعراء الإسكندرية فى عدة أماكن: مثل نادى موظفى الحكومة وفى كلية الآداب، وفى دار الجامعة الشعبية التى تحولت إلى الثقافة الجماهرية وكان يتمتع بحضور شخصى ويحوز إعجاب المثقفين وقتئذ. 

   طوال فترة إقامة الشاعر أمل دنقلفى الإسكندرية لم يكتب سوى بعض القصائد القليلة من الشعر العمودى والشعر الحديث.فمن قصائده العمودية:
قصيدة " طفلتها " التى نال عنها جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب، وقصيدة " الأفعى " التى لم تنشر مطلقا في داوينه المتفرقة أوأعماله الكاملة ً ومطلعها: امشى ولا امشىقيودى خفية وقصيدة "رسالة من الشمال " وقصيدة " الملهى الصغير".
أما قصائد الشعر الحديث التى كتبها فهى: قصيدة " حكاية المدينة الفضية " وقصيدة " ماريا " وقصيدة " كريسماس" التى لم تنشر أيضاً فى أعماله وقصيدة "المطر".

كان متأثراُ فى قصائده العمودية خاصة قصيدة " الأفعى " بالشاعر" محمود حسن إسماعيل " كما كان تأثره واضحاً – باعترافه – بالشاعر أحمد عبد المعطى حجازىفى مجال الشعر الحديث.
* ترك مدينة الإسكندرية ورحل إلى مدينة السويس ليعمل فى جمرك السويس، ليعود إلى القاهرة عام 1966.
وفى ختام رسالته وعد الدكتور وصفى أنه سوف يرسل نص قصيدة "الأفعى" المشار إليها سالفاً ثم أخبرنى فيما بعد أنه لم يعثر عليها فى أوراقه، لكنه أرسل إلى قصيدة " كريسماس " التى ننشرها هنا: 

قصيدة: كريسماس           

إثنان ... لم يحتفلا بميلاد المسيح:
أنا والمسيح 
غرفتنا لم تنطفئ أنوارها عند انتصاف الليل  
لأنها لا تعرف الأنوار!
غرفتنا لا تعرف الليل من النهار 
عين المسيح فى دجاها قمر حزين 
فى الصمت ينزف الدموع 
يسوعنافى حاجة إلى يسوع 
يمسح عن جبينه كآبة الأحزان 
لأنه فى عيده السجين 
مد يديه، لم تصافحا سوى القضبان، والقضبان!

النور ميت بلا شواهد الذكرى، بلا ضريح 
أين المسيح؟
أين؟ يا من تجرعون باسمه الأنخاب
يا أيها الذين يرقصون فى ذكرى القتيل 
استمتعوا بالرقص والأنغام.. والشراب 
فالناس يرقصون دونما أسباب 
لكن فى صفوقهم من يقرع الطبول 
لحناً بدائياً!

الناس يرقصون فىمدينتى
لأن غيرهم يصفقون!
ومن يصفقون قد لا يعرفون ...
من أجل من يصفقون!
لا تسألوا أين يسوع وابتسامه الوديع
فمن رثاه ميتا .... لم يرثه حيا 
يموت فى زنزانة بلا عيون 
وضجة الميدان تنتهى إلى آذانه وتضمحل ...
صمتاً خرافياً 

انا انتظرت أن يموت الموت، ان يموت 
أسكت فىلسانى الحروف حتى يورق السكوت!
هل تتكون الحروف فى فم ما زال يمضغ اللجام؟
أنا تركت طفلتى تجوس قى شارع المدينة
 تسألكم أن تبتسموا لها، مجرد إبتسام
لكن ...رد دتم دونها الأبواب 

لو كنت ريحاً.. لأختنقتم حين لا تهب!
لو كنت نوحا فوق لجة الطوفان 
طردتكم من السفينة!
لو كنت نيرون لطهرت قلوبكم ... على ألسنة اللهب!

لكنى أحبكم 
أعرف أنكم تقاتلون من يحبكم 
لكننى ... أحمل نعش الحب فوق كاهلى الصغير 
أمشى به .... لعل هذا الجسد الهامد يوماً يسير!
باسم الذين يولدون ميتين 
ومن يضاحكون وجه الشمس فى الحقول 
ومن يقاتلون دون سيف 
 ومن يضاجعون هذا الخوف،
ينجبون منه كل صيف!
اسألكم أن تفتحوا الأبواب للمسيح 
لكى تباركوا زمانكم به، تعمدوا أطفالكم فى دمعه المنهل 

أخشى إذا مر الربيع 
وانفض رقصكم ... وخيم الصقيع
يكون قد مات المسيح!                  (أمل دنقل 1963)

إتصلت بعد ذلك مباشرة بالدكتور نصار عبد الله، الشاعر المعروف وأستاذ الفلسفة بكلية آداب سوهاج، وكان الدكتور نصارعبدالله، رفيقاً لأمل مدة من الزمن، وقد أكد فى شهادته، على أن أمل دنقل كان معجباً جداً بالشاعر العراقى سعدى يوسف،فى ديوانه الأول. وكذلك بالشاعر السورى محمد الماغوط. كذلك دلنى الدكتور نصارعلى أن لأمل دنقل عدداً من قصائد الهجاء الهامة كتبها فى هجاء عدد من اصدقائه الشعراء،واسمعنى بالتليفون عدداً من هذه القصائد، ثم أخبرنى أن امل قد كتب قصيدة هامة يهجو فيها الشاعر الراحل سعد درويش، ورد عليه الأستاذ سعد بقصيدة أشد عنفاً منها كقصيدة معارضة، وأن هذه القصائد محفوظة فى ملف كان يحتفظ به الأستاذ سعد درويش ونصحنى بالاتصال بالشاعرعبد العليم عيســـــى الذىوعدنى بتقديم ما عنده، والإتصالبالاستاذ عبده درويش ليسهل لى مهمة الإطلاع على هذه القصائد. 

وحين إتصلت بالأستاذ عبده درويش بمنزله بمدينة منوف أعرب عن تقديره لهذا الاهتمام، وأكد أنه واجب يفرضه البحث الأدبى، وأنه لا يمكنه التقاعس عن أداء هذا الواجب وسوف يأتى إلى القاهرة ويدعونى للقائه فى شقة شقيقه الراحل للإطلاع على هذه الأوراق. وكررت الإتصال به لكنه إعتذرفى النهاية. وقد أكد لى الشاعران نصار عبد الله وبدر توفيق تميزقصيدة امل دنقل بالبناء المحكم وبدقة التصوير وشدة السخرية، وعلى العكس من قصيدة سعد درويش الحافلة بالألفاظ الفاحشة والبذيئة، فإن قصيدة أمل لا تتضمن إلا على عدة أبيات قليلــــــة خارجة مثل هذا البيت"
كلما قام نقب الأرض بحثا عل (قرشاً) من (جيبه) فر سهوا.

ما بين الأقواس كلمات بديلة وضعتها تفاديا للحرج من الكلمات الأصلية التى تصور وسوسة سعد درويش بصورة جارحة.  

ومن الشهادات التى لا يمكن تجاهلها فى سياق البحث عن حياة أمل دنقل وثقافته وعلاقته بالآخرين من الشعراء والنقاد، هذه الشهادة التى سجلها الشاعر أحمد عنتر فى ذكرياته، ونشرها فى مجلة " الأقلام " العراقية، حيث يقول أنه تعرف على أمل فى ندوة برابطة الأدب الحديث فى نوفمبر 1969، و خرج وراء أمل دنقل وقدم نفســــــه له انه شاعر مجند، وفى الحال تذكر أمل انه قرأ لهذا الجندى قصيدة نشرت قبل بضعة أسابيع بجريدة الجمهورية عن صبى استشهد فى القناة وهى قصيدة جيدة. ومن هذه اللحظة بدأت العلاقة بين أمل دنقل وهذا الشاعرالذى يعيش فى جبهة القتال بالسويس أداءا لواجبه الوطنى، ثم يأتىفىأجازاته إلى القاهرة ليلقى أشعاره فى المنتديات الأدبية ويتعرف على غيره من الشعراء. 

وقد توثقت العلاقة بينهما فيما يبدو ومما يذكره أحمد عنتر أنهما أقاما فى غرفة واحدة على أحد السطوح بحى بولاق الشعبى، وهذا ما يجعلنا نصغى لأحمد عنتر باهتمام وفى الذكريات يقرر أحمد عنتر" ان امل ابتهج حين حدثه عن الأغانى والعقد الفريد وزهر الآداب، وبدأنا نتبارى فى استظهار محفوظاتنا من أبى فراس والمتنبى والشريف الرضى، واكتشفت عدم رضائه عن شوقى .... وتحدث " أمل " عن اعجابه بأبى نواس فاقررته إياه .... وقادنى إلى حب عمر أبى ريشة، وتقاسمنا الإعجاب بشاعرية نزار قبانى، والتقينا عند حجازىو الفيتورى واختلفنا حول عبد الصبور والسياب "  

         وعن علاقة أمل دنقل بالنقاد يقول أحمد عنتر: لم يكن أمل – رحمه الله  -  حريصاً على استمطار بركات النقاد المقدسة خاصة الأكاديميين منهم،فرأيه فيهم كان يتوزع بين المشاكسة والمداعبة، واطلاق التشنيعات المضحكة لم يستثن من هؤلاء الإ ثلاثة: الدكتور عز الدين اسماعيل لأن منهجه النفسىفى النقد وسعة صدره اتسع لمشاكسات أمل ونزقه فكانت علاقتهما طيبة،والدكتور جابر عصفور الذى توثقت علاقته به فيما اعلم –فى تاريخ متأخر عن فترة الصعلكة الأولى أىبعد عام 1975 ، و الذى شاءت الأقدار ان يعايش فترة حرجة مصيرية من حياة امل إلى أن لفظ الشاعر أنفاسه بين يديه. والدكتور على عشرى زايد الذى أعجب بأمل وكتب عنه بحب ووعى فى كتابه المهم " استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر العربى المعاصر" قبل ان يتعرف عليه أمل، عن طريقى بكلية دار العلوم وعلى كثرة ما قيل أو كتب حول " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " كان امل يعتد بمقال الناقد جلال العشرى– ولم يكن اكاديميا–الذى نشره فى مجلة الفكر المعاصر المصرية – العدد 53 – يوليو – 1969 بعنوان " أزمة الشاعر الجديد: 
والبكاء بين يدى زرقاء اليمامة ".

وفى حديثه عن احب قصائد هذه المجموعة الشعرية الأولى قال امل: قصيدة بكائية ليلية لأنها عن مازن أبو غزالة، وحديث عن أبى موسى الأشعرى لجودتها فنياً – وقصيدة " يوميات كهل صغير السن " بها مقطع يخص صديقنا الشاعر نصار عبدالله وقد قصد الشاعر الصعلوك منزله ذات مساء ....  

    ... اطرق باب صديقىفى منتصف الليل 
     تثب القطة من داخل صندوق الفضلات 
    كل الأبواب العلوية والسفلية تفتح إلا ... بابه 
    وأنا اطرق ..... اطرق 
    حتى تصبح قبضتى المحمومة خفاشاً 
    يتعلق فى بندول
    يتدفق من قبضتى المجروحة خيط الدم 
    يترقرق عذبا ... منسابا .... يتساند فى
    المنحيات
    تغتسل الرئتان المتعبتان من اللون الدافئ 
    يتلاشى الباب المغلق والأعين والأصوات 
    وأموت على الدرجات. 
    
ثم يضيف أحمد عنتر على ذلك قوله إنه كان يطيب لأمل دنقل أن يقرأ فىأى ندوة تضمه مع الصديق الشاعر محمد عز الدين المناصرة (الذى كان يدرس بكلية دار العلوم بالقاهرة) قصيدته " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " ليس اعتداداً بهابل إغاظة ونكاية فى الصديق الشاعر المناصرة الذى كان يرى انه صاحب الفضل فى اكتشاف الجانب الميثولوجى لقصة" زرقاء اليمامة " وأورده فىقصيدته التى نشرت فى مجلة الآداب قبل قصيدة أمل ..... وكان المناصرة يعلن ذلك لكل من يقابله فى القاهرة أنذاك.  

وعلى ذكر " مجلة الآداب ": كان يحلو له أن يستعيد فى مواجهة شلة من شعراء السبعينيات تتطاول على ما كتب وما أثير عن سطوه على رمز( بردى) فى قصيدة محمد الماغوط( أمير من المطر وحاشية من الغبار) ليجعله (نيلا) فى قصيدته "ميتة عصرية " من ديوان (تعليق على ما حدث) ... كان يذكر ذلك بجرأة ولا يرى حرجاً فى هذا ... فهو فارس فى مواجهة نفسه قبل أن يفضح رياء الآخرين.( الأقلام – عدد 6 حزيران 1987 م – أمل دنقل– أوراق قيد الإصفرار).

وهذا الكلام الأخير يؤكد أن ما يثار الأن حول تأثر أمل أو سطوه على هؤلاء الشعراء ليس جديدا، ولكن الشاعر أحمد عنتر لم يوضح صراحة إن كان ترديده لهذه الإتهامات نابع من رفضه لها والسخريه منها ام اعتراف بالسطو وإقرار بالتأثر فما تفسيره لهذا كله؟ للأسف الشديد إن صاحب هذه الذكريات قد تركنا عند أهم نقطة، امام إشارات تحتاج إلى تفسير فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سند أو وثيقة تقودنا إلى شئ من اليقين. 

وننتقل الأن إلى شهادة الشاعر بدر توفيق، وهو واحد من جيل أمل ورفيقه وأحد شعراء كتيبة الأهرام – كما كان يسميهم لويس عوض – وقد كتب الشاعر بدر توفيق مقالتين هامتين عن أمل دنقل: الأولى دراسة لمجموعة البكاء بين يدى زرقاء اليمامة نشرها عام 1969 فى مجلة " الآداب " بعنوان " كوميديا القلب المعتم " والثانية فى عام 1983 بجريدة الرياض بعنوان " أول الراحلين من كتيبة الأهرام".

وتتسم كتابات بدر توفيق عن دنقل بسمتين واضحتين أولهما: رؤيته النافذة لشعر أمل دنقل واكتشاف أهم سماته الفنية، وابعاده الإنسانية والإجتماعية وثانيهما – حبه العميق لأمل وإعجابه بشعره والاعتزاز بتفوقه ونبوغه. 

والواقع أن بدر توفيق قد أثبت بهذا الموقف أنه فارس نبيل، وأكد ذلك بتقديمه صور المقالات لى وبالبحث معى عن كل مصادر الموضوع بحماس  شديد، واعتبر إهتمامى باستكمال هذا الكتاب عملا مخلصاً جديراً  بالتقدير، وأهدانى المقالين للأستفادة بهما فى هذا الشأن، وطلب منى أن أنشر مقاله " أول الراحلين من كتيبة الأهرام"  فى ملاحق هذا الكتاب حتى يتيح الإطلاع عليه لمن يهتم بأمر الشعر الحديث كله و رواده، ودور لويس عوض والأهرام فى تقديمه لهذه الكتيبة وإلقاء الأضواء على ابداعات أمل دنقل خصوصاً وأن الشاعر بدر توفيق لا ينوى إعادة نشر هذا المقال قريباً .

ونحن نلاحظ بوضوح أن بدر توفيق فى مقاله "كوميديا القلب المعتم" قد وضع يده على أهم ملامح الشعرعند أمل دنقل، وسجل بذلك سبقاً حقيقياً فى دراسة القصيدة الدنقلية. فهو يكشف عن ولع امل بحكايات الحياة اليويمة الكوميدية النادرة والشائعة لرجل الشــــارع وهــــــــو بذلك يذكــــرنا بحـــكايـــات ThomasDecker  توماس دكر صفحات " الطاعون " من " العالم المدهش" بحكاية الزوج الذى طلب إلى زوجته بعد إصابتها بالطاعون أن تعترف له حتى تلاقى ربها بلا ذنوب ... وتعترف الزوجة وهى على فراش الموت بعلاقتها الحنسية بأزواج جاراتها ... ولكن بعد الاعتراف تشفى من مرضها ويستطيع القارئ تصور ما يمكن ان يحدث لها. 

أمل يشدنا إلى مثل هذه المطبات الواقعية النادرة والشائعة التى تكشف أنواع الضعف الإنسانى بكثافة وحصافة أكثر من لغة شعره وكل ما فيها من إيحاء وتركيز.

    حبيبتىفى لحظة الظلام، لحظة التوهج العذبة 
    تصبح بين ساعدى جثة رطبة 
    ينكسر الشوق داخلى وتخفت الرغبة 
    اموء فوق خدها 
    اضرع فوق نهدها
    أود لو انفذ فى مسام جلدها
    لكن يظل بيننا الزجاج والغياب والغربة 
    وذات ليلة تكسرت ما بيننا حواجز الرهبة 
    فاحتضنتنى
    لكنها وهىتنادينى سمعتها تناجينى ....
    سمعتها تنادينى ....
    باسم حبيبها الذى حطم اللعبة 

ومن هذا الإهتمام بنوادر الحياة الواقعية تتكشف رؤية أمل الكوميدية لحياة الإنسان ولا يكتف بدر بهذا بل يقتفى جذور هذه الرؤية التراجيكوميديةفى طفولة امل وصباه ويكشف عن وقائع لم اقرأها عند أحد من قبل. ويقول ربما لا تكون حياة الفنان الخاصة شيئاً يمثل قيمة خاصة يتلون بها فنه، ولكننا فى معظم الحالات نجدها كذلك، ولكن تبقى دائما الإثارة لكل من الناقد والدارس والقارئ.  

وهكذا نحن أيضا فى التقائنا بالشاعر "محمد أمل فهيم محارب دنقل" الذى يبلغ طوله 184 سم ووزنه 60 كجم والذى ولد فى 23/6/1940 فى قرية " قفط" التى تبعد 20 كم عن محافظة قنا. نراه يرحل إلى القاهرة سنة 1941 مع أبيه مدرس اللغة العربية ليبدأ تعليمه فى كتاب الشيخ عبده بحدائق القبة، مؤديا التحية لمدرسة الفصل عند دخولها للمرة الأولى برفع قدمه اليسرى إلى رأسه بدلا من يده اليمنى، ثم يعود عام 1947 إلى قنا فيعلمه أبوه بنفسه مناهج الروضة والقراءة الرشيدة ... وتستمر حياة التلميذ الصغير فى صحبة والده المدرس مليئة بالاضطراب و" العصلجة " ومع مرور الأيام وتعددها تتعدد عقوبات التلميذ الصغير، وتتبادله أرجل السرير الحديدية مشدود الوثاق ومضروبا وباكيا .... والشئ الغريب الغامض المثير يكبر ويمتد آسرا عقله الذى ينبض بين جنبيه ... ويصبح المزلاج الداخلى لباب الحمام صديقه الوحيد الذى يدفع عنه شرور الهجوم الأبوى الغاشم على حريته فى " الصياعة " و فى الوقوف على رصيف محطة قنا عام 1948 منتظرا مرور قطار " مولانا المعظم الملك فاروق " مضحيا بعلقة عظيمة من أجل مشاهدة الملك المعظم. ويقرأ أمل دنقلفى كتاب أن من حفظ ألف بيت من الشعر صار شاعر،ومن هنا انكب امل على حفظ ألف بيت حتى يكون شاعرا.  

ثم يضيف بدر توفيق إلى هذا قوله:
كان الشعر فى حياة امل دائما هو الإصرار والنية المبيتة، وبدأت رؤيته الكوميدية لحياة الإنسان وموته واضحة فىالإقتراب من جسد أبيه المسجى على فراش الموت، فيفتح عينيه المغلقتين بالموت ثم يقفلهما ويخرج من غرفة الميت بلا دموع تسح على الخدين ليقول للواقفين خارج الباب "لقد مات أبى" كان هذا فى عام 1950.

وفى عام 1957 يحصل على شهادة الثانوية العامة ثم ينتقل إلى القاهرة ليلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، ويقضى بها سنتين فاشلتين، ويبدأ حياته العملية الفاشلة أيضاً كموظف بمصلحة الجمارك، ثم يترك العمل متجولاً نهاره وليله فى شوارع القاهرة وليس سوى الشعر فى رأسه وفى جيوبه وفى حقيبة ملابسه الصغيرة. 

مبالغات النقاد:
وعن هذا يقول بدر توفيق: إن أمل دنقل ليس أحسن شاعر فى جيله كما يدعى بعض النقاد،والذى يقول هذا فهو جاهل جدا بالشعر ولم يستطع حتى بينه وبين نفسه أن يجيب على هذا السؤال البسيط جدا والصعب جدا: ما هو الشعر؟ ومن هو الفنان الذى يطلق عليه صفة الشاعر؟ 

أمل دنقل فقط وبالتحديد هو أفضل شاعر مصرى استطاع أن ينجح بدون غموض ولا مبالغة فى كتابة القصيدة الكوميدية حتى الآن، ويمكن فى المستقبل أن يعقد على جبينه لواء الشعر الكوميدى الجديد فى هذا العصر، إذا استطاع أن يحقق عملاً كاملا فى كوميديا الطبائع البشرية. 
ومن النقاط الهامة التى تطرق إليها بدر توفيق فى هذا المقال مقارنة أمل دنقل بكبار الشعراء مثل جون دون وبكتاب الرواية الساخرة مثل فيلدنج، ثم يقف بنا امام شاعرين مصريين من جيل امل هما كمال عمار وأحمد فؤاد نجم. 

فأمل هو الوجه الفصيح المقابل لوجه نجم العامى، ولكن تميز امل يكمن فى قدرته على النفاذ بالفصحى فيما يسهل على العامية أن تعبر عنه ... اما تماثلهما ففى ذلك التناول الكوميدى للقضايا الاجتماعية والوطنية، وفى لا نهائية التجول اليومى والاصرار اللاشعورىفى أن يكون الشعر مادة للحياة الآمرالذى يجعلهما لا يصلحان لأىشئ آخر.  
هذه شهادات وملاحظات هامة ولكنها بحاجة إلى تأكيد وإضافة. وهذا يضع على كاهل كل اصدقاء أمل وأقاربه مسئولية كبيرة، تملى على كل من لديه قصائد أو معلومات صحيحة عن حياة أمل وقراءاته أن ينشرها أو يقدمها لنا للاطلاع عليها. إن دراسة حياة امل دنقل ومصادر ثقافته وفنه الشعرى، مشروع ممتد امام الباحيثينفى الحاضر والمستقبل.  
               .......................................

الصدفة وتصاريف الأقدار                                        
وكانت الصدفة الحسنة هىالتىوضعتنىفى مقدمة الذين اضطلعوا بهذا المشروع وأولوه جل اهتمامهم، وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قد صدرت فى يناير 1988 وبعد أربع سنوات من كتابتها أصبحت هى الشهادة الحقيقية على هذا الاهتمام الجاد، ولم يكن هذا الاهتمام أمراً طارئا بالنسبة لى، بل امتداداً طبيعيا لاهتمامى بدراسة الشعر عموما والشعر الحديث بوجه خاص. وكان الاهتمام فى بدايته يتركز على الشعر المسرحى كجزء من تخصصىفى دراسة المسرح، وقد ظهرت هذه الدراسات فىكتابى "المسرح وقضايا الحرية" الصادر فى 1984 من هيئة الكتاب وشملت مسرحية الشرقاوى:" النسر الأحمر" ومسرحية" حكاية من وادى الملح" للشاعر محمد مهران السيد وبحث طويل عن " مصر فى مسرح صلاح عبد الصبور". 

وفى كتابى " قضايا الإبداع والنقد" 1986، يجد القارئ بحثاً عن " البياتى بين صلاح عبد الصبور ونزار قبانى" بالإضافة إلى بحث عن" نقد المسرح الشعرى فى المجلات الأدبية " ودراسة لدوانينلشاعرعربى هو عذاب الركابى بعنوان " شاعر يبكى الغربة والنفى" بالإضافة إلى كتاباتى عن إليوت وترجماتى لبريخت ثم" وول شوينكا " النيجرى الحاصل على جائزة نوبل عام 1986 حيث ترجمت له ست مسرحيات " الموت وفارس الملك " و"الأسد والجوهرة" و"حصاد كونجى" و"عذارى باخوس" و"سكان المستنقع"وكذلك مسرحية "السلالة القوية" وكلها مسرحيات شعرية تعد من روائع المسرح المعاصر. 

كذلك فإننى دخلت عالم الكتابة من خلال الشعر. وشاءت الصدفة أن تكون أول قصيدة أنشرها هى قصيدة عمودية كتبتها بعد زيارتى لبورسعيد بعد العدوان الثلاثى ونشرتها "جريدة وطنى " 24 ديسمبر 1961،ويسعدنى أن أضعها امام القارئ هنا باعتبارها محاولة مبتكرة للتعبير بالشعر. وفى سنة2014 نشرت مجموعة بعنوان "أشعار وأغانى مصرية" في دار الحضارة للنشر بالدقى.

وهناك أشعار آخرى حديثة وعامية واغان كتبتها على فترات، وقد أذيعت بعض أشعارى الوطنية فى أواخر الستينيات قبل نكسة يونيو 1967، ولكنى لم أهتم بنشر باقى هذه القصائد وحتى الأغانى لم اهتم بعرضها على المسئولين فى الإذاعة والتلفزيون لصعوبة السير فى دهاليز هذه الغابة. وقد نشرت هذه المجموعة أخيرا باسم "أشعار وأغانىمصرية"في دار الحضارة للنشر بالدقى.

على كل حال فإن القارئ بإمكانه أن يرجع لمسرحياتى المنشورة مثل " القضية " 1979 و" المجنونة " 1988 و" لقاء على القنال" وسوف يجد روح الشعر تتخلل نسيج العمل كله ثم تتبلور وتنفجر فى لحظات لتغطى مشاهد بأكملها، هذا هو سر ارتباطى بالشعر وبالشعراء، ومع ذلك فإننى لم أزعم اننى شاعر لأن لصورة الشاعر فىعقلى نماذج رفيعة مثل "ميلتون " و"شكسبير" واليوت " و" بريخت " و"المتنبى " و" أبى العلاء " و" شوقى " و" صلاح عبد الصبور" و" أمل دنقل" و باقى العباقرة المجددين فى كل بقعة من بقاع الأرض. وهيهات ان أبلغ هذه القمم الشاهقة. ورحم الله امرءً عرف قدر نفسه، فاكتفيت بالنقد والبحث الأدبى وكتابة المسرحيات، واعتقد إنى مؤهل لهذه الأمور بدرجة أفضل. 

من وحى القناة:
قناة بلادى قد طغى الشوق والجوىفجئت قناتىكىأزورالموانيا

واستشرف الدنيا بفخر وعزة        وأرى ضفافك قد سلمن العواديا

واشتم نفحا من نسيمك عاطرا       وريح انتصار قد أعاد قناتيا

فتراب أرضك يستثير محبتـــىوصقاء مائك يستطير جنانيا

قد مات جدىفى ترابك حافــرا    ورنت إلى الأحفاد تشكو البواديا

فهل كان يمكن ان نعيش بلا قنا     ويقال بريطانيا الحليفة حاميا

ويقال أخت النيل قد سلبت سدىوغدا عرين الأسد يخشى الضواريا

لا بل أبينا واستشطنا ثــــــورة   وخلعنا ثوبا كان رثا باليا

فطردنا غازية البحار وإلفهــــا   وأسقطنا إيدن في مياهك خابيا

وهزمنا باريس الخليعة كلهــا   وأغرقنا بينو في البرلس زاريا

وضربنا كلب الصيد أخذا بغدره   ورددنا موسى وابن جوريون صاديا

حطمنا أنفاهم وفزنا بكبرهم     وكشفنــا عــارهم صراحـــا وعاريا 

وقلنا سلامة للبرية والورى     سلاما سلاما مثل مائك صافيا

فبنيـــــا سداً للرخاء وعزة          وأقمنا صرحا للعروبة عاليا

لك الله يا مصر العزيزة فى المحن    ورعى جمالا للسفينة هاديا

رجل البطولة والعدالة والهدى        رجل السلام إلى الأخوة داعيا

أقسمت بأسمك، بأصالة منبتى       لأعيش لاسمك أو اموت فدائيا

الا فاعذرونى إن بالقلب نشوة         فالخلد والأحباب كانوا مزاريا

لقد ذكرت هذه القصيدة لأوضح مسألة غاية فى البساطة:وهى أن موقفى صادر عن إنتماءحقيقى للشعر والشعراء، وأن كتابى يمثل تحية وتقدير لمدرسة الشعر الحديث ولشعراءها ممثلا فى امل دنقل . ولذلك تجنبت المقارنات والموازنات التى قد تشير إلى تمييز شعر أمل عن غيره واتجهت مباشرة إلى ابراز جوانب التفوق والتميز حتى لا أغضب أحدا منهم. وكان هذا سببا لبعض الانتقادات، مثل ما قاله الدكتور صلاح فضل بالذات فى ندوة الأتيليه" بعد قرائة الكتاب لا نكاد نضع ايدينا على الربط بين طريقة امل دنقل الشعرية وطرق السابقين عليه، لنعرف الإضافة الحقيقية التى أضافها " هذه مبالغة من الدكتور صلاح فضل لكنها تحتوى على جزء من الحقيقة يتمثل فى المقارنة الحادة بين أمل وبين أبناء جيله بل والسابقيين عليه أولا.