(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
يعاصر إنسانُ اليوم، وسيشهد التّاريخُ على ذلك أيضًا، أنّ القَرْن الحادي والعشرين أكثر دمويّة من القَرْن العشرين بحَرْبَيْه العالميّتَيْن؛ فقد شهد الرّبعُ الأوّل فقط من القَرْن الحالي كميّة متنوّعة ومُخيفة من الموت والدّم والإصابات والتّهجيرات. وأظنّ أنّ هذا يكفي حتى نَصِف –ببالغِ الحزن والأسف– قَرْننا الحالي بـ"القَرْن الدّمويّ"، إذ قد بلغ فيه سفكُ الدّم –بلا داعي ولا مبرّر، وبعبثيّة تامّة– حَدًّا فاق بمراحلٍ كثيرة ما كان يجول بمُخيّلة بَشَرِ القَرْن العشرين.

لقد بات عَالَمُنا المعاصر مجنونًا إلى حدٍّ متفاقم للغاية. وفي الوقت الرّاهن، تحكم وتتحكّم في عَالَمنا المعاصر، من جرّاء الأنظمة السّياسيّة غير المحكمة، وغير الفعّالة، وغير العادلة، حزمةٌ من قادة العَالَم المجانين، الذين هم بلا ضميرٍ، ولا حسّ أخلاقيّ. وإن قِيل: إنّهم أذكياء، فذكاؤهم هو ذكاءٌ شرير ومدمّر. إنّ ما يحدث في عَالَمنا المعاصر لا يمتّ بصلةٍ إلى السّياسة الأصيلة، والعقل، والضّمير، والأخلاق، والدّين، والإيمان. فبحقّ السّماء، متى وكيف صرنا "بشرًا" (حتى لا أستخدم ألفاظًا أخرى كـ"حيوانات" أو "شياطين") بلا عقلٍ وضمير وأخلاق؟

مَن يشاهد تدميرًا وخرابًا ودماءً وموتًا، وأطفالًا أبرياء تفارق الحياة –أيًّا كانت جنسيّاتها وسياقاتها الفكريّة والدّينيّة، ويبقى صامتًا وأخرس، لأجل مصالحه، سواء الشّخصيّة أو الجماعيّة أو الوطنيّة أو الدّوليّة، وسواء كان شخصًا فرديًّا أو جماعة أو دولة، فهو خائن بالنّسبة للبشريّة والتّاريخ والأخلاق والعقل والدّين والإيمان.

ولكنّنا كمؤمنين، لدينا رجاءٌ حي وراسخ، ولا نزال نترجّى عَالَمًا أفضل؛ ليس في حياة-ما-بعد-الموت (الدّهر الآتي) فحسب، ولكن في هذه الحياة، وعلى هذه الأرض، بل وفي أعماق هذا العَالَم المجنون عينه، من أجل وجود أكثر إنسانيّة لكلّ البشر، ولكلّ ما هو حيّ وطبيعيّ.

أمَّا إذا تساءلنا بحزنٍ وآسف عميقين: هل نحن قد وصلنا إلى "نهاية العَالَم والأزمنة"؟ لا، ليس بَعدُ؛ إنّه نوعٌ من "نهاية الإنسانيّة" فقط! فبعد إعلان الفيلسوف الألمانيّ "نيتشه" الذي فحواه "موت الإله"، ذلك الشّعار الذى نادى به الذين بحثوا عن ظهور "السّوبرمان"، و"إرادة القوّة"، و"الإنسانويّة"، و"الحرّيّة الوجوديّة"، وكذلك من سعوا للبلوغ إلى "الفردوس الأرضيّ"، و"موطن الهويّة"، و"التّسامي بدون تسامي"، تجد البشريّةُ ذاتها الآن أمام "موت الإنسان" بكلّ معنى الكلمة، أيّ حرفيًّا ومعنويًّا وأخلاقيًّا.

أجل، فبعد "موت الله" الأيديولوجيّ، وعدم الإيمان به، لم يتحقّق زعمُ "الإنسان الأصيل والحرّ"، الذى يؤمن بذاته، وبما هو طبيعيّ وعاقل؛ وإنّما نحن نشهد –مع الأسف الشّديد– موت الإنسان بإنسانيّته، وظهور بشريّة غير-طبيعيّة، وغير-إنسانيّة، وانتشار –على نحوٍ واسع– للإنسان اللاعاقل، واللاأخلاقيّ، والقبيح، والمدمّر لذاته، وللآخرين، والطّبيعة، والأخلاق، والجمال، والخير، والحضارة، والثّقافة.

لقد كذبوا على الإنسان المعاصر حينما قالوا له، وهو بدوره قد صدّقهم: إنّ الله قد مات ونحن قد دفناه! فشَاعَ في حقبتنا بشرٌ كذّابون، غير-عاقلين، وبلا أخلاقٍ، وعبيد لذواتهم ولغيرهم، وقِباح. ومع ذلك، وجب عليَّ التّنويه أنّني لا أصف هنا الأفراد والأشخاص الفردين، ولا أنادي بأنّ الملحدين بلا عقل، وبلا ضمير، وبلا أخلاق؛ وإنّما أصف حال البشريّة كجماعةٍ بجملتها، مستعملًا هذه الصّياغة، لإبلاغ وبلوغ المعنى والمخزى. كما إنّه ليس بالضّرورة أنّ جميع المتديّنين –أيًّا كانت ديانتهم– هم فوق الشّبهات، ولديهم عقل وضمير وأخلاق؛ فكم مِن مذابح وجرائم وشرور تمّت ولا تزال تتمّ باسم الله والأديان!

والآن، كيف السّبيل إلى عَالَمٍ أفضل، وواقعٍ أفضل، ومجتمعٍ أفضل، وبَشَرٍ أفضل، وأزمنة أفضل؟ إنّني مقتنعٌ القناعةَ كلَّها أنّه لا سبيل لتحسين أوضاعنا الحالية إلّا بالعودة إلى التّعقُّل، والعقلانيّة، والإنسانيّة، والضّمير، والأخلاق، والمسؤوليّة، والأخوة الشّاملة، والسّلام المجرَّد والمجرِّد من السّلاح، والحقّ، والجمال، والخير، والتّسامي الذي يليق بنا كبشرٍ مخلوقين على "صورة الله وكمثاله". إنّ ما يبعث على التّفاؤُل حقًّا هو أنّه ثمّة أشخاصٌ وحكومات ودول، في أرجاء المعمورة كلّها، راحت تستيقظ من غفلتها، ومن نوم ضميرها، وترفع صوتها وتصويتها، لوقفِ هذه المهازِل والجرائم، وهذا التّدمير للبشر والحجر. أجل، وإن نامت وماتت الإنسانيّةُ فينا، وفاحت رائحةُ العفن منها، إنّنا نؤمن الإيمان الثّابت غير المتزعزع أنّه ثمّة مَن هو قادرٌ على إيقاظ ضمائرنا –كأشخاص وشعوب، وهو القادر أن يقيم الأموات ويحيي العظام أيضًا.

أخيرًا، ونحن في يُوبِيل الرّجاء (2025)، الذي دعت له الكنيسة الكاثوليكيّة، يجدر بنا الإصغاء والانصِياع لكلماتِ وأمنيّات إنسانٍ حكيم كمثلّث الطّوبى البابا فرنسيس (1936-2025)، حتى نُسكت صوتَ الأسلحة ونتغلّب على الانقسامات: «أمنيتي لهذا العام الجديد [2025] هو أن يكون اليوبيل للجميع، مسيحيين وغير مسيحيين، فرصة لإعادة التّفكير في العلاقات التي تربطنا، ككائنات بشريّة ومجتمعات سياسيّة، للتغلّب على منطق الصّدام وتَبَنِّي منطق اللقاء، ولكي لا يجدنا الزّمن الذي ينتظرنا تائهين يائسين، بل حجاجَ رجاء، أي أشخاصًا وجماعات تسير ملتزمة لبناء مستقبل سلام».