د. ســامــح فــوزى
لم أستغرب أن تٌحدث الحرب فى غزة جدلا وامتعاضًا واحتجاجًا فى بعض أوساط البيروقراطية فى بريطانيا التى لا تعجبها مواقف حكومتها تجاه الدعم الكامل لإسرائيل.
ويمثل ذلك إشكالية مزدوجة لم تغب يومًا عن المشهد العام فى بريطانيا، تستيقظ وتخبو لكن لا تختفي.فمن ناحية أولى تأخذ بريطانيا منذ زمن بمبدأ حياد الخدمة المدنية بعيدًا عن السياسة، ورغم ذلك لا يغيب الوعى السياسى عن إدراك الإدارة العامة بها إلى حد الاختلاف مع الحكومةمن ناحية أخري. نذكر موظف وزارة الدفاع كلايف بونتج الذى تحدى المرأة الحديدية مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء السابقة فى موقفها تجاه حرب الفوكلاند، مما كلفه أن يفقد وظيفته، وإن أفلت من محاكمة جنائية، وتحول إلى كاتب ومؤرخ، ورحل عن عالمنا عام 2020.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن على نحو أكثر اتساعا. منذ أيام سٌربت رسالة لـ 300 موظف بوزارة الخارجية يعربون عن مخاوفهم إزاء تورط بلادهم فى دعم سياسات إسرائيل فى غزة، لاسيما فى استمرار مبيعات الأسلحة البريطانية لها رغم تجاهل إسرائيل الصارخ للقانون الدولى حسبما ذكروا فى رسالتهم. وتشير المعلومات إلى أن هذه الرسالة ليست الأولى من نوعها، بل هى الرابعة التى يرسلها موظفو الخدمة المدنية المعنيون إلى وزرائهم منذ عام 2023. ويبدو أن هؤلاء الموظفين الذين يمتلكون كفاءات وخبرات فنية متنوعة يواجهون مصير «كلايف بونتج»، بعد أن تلقوا رسالة مفادها أنه فى حالة استمرار اعتراضهم الجوهرى على سياسة الحكومة، فإن عليهم النظر فى تقديم استقالاتهم.
نحن إزاء ازدواجية ملتبسة، بين حكومة تتمسك بحياد الخدمة المدنية، وهو ما يقتضى انصياع البيروقراطية الكامل للموقف السياسى للحكومة، أيا كان مضمونه وشكله، وبين فريق من البيروقراطية الحكومية يرى أن الاخلاق جزء لا يتجزأ من مهنيته، ولا يصح أن يسايرحكومة تدعم دولة تنتهك القانون الدولى عيانًا جهارًا، لاسيما أن الجهاز الإدارى برمته ينتظم حول مفهوم «الصالح العام»، وهل من صالح الدولة البريطانية دعم حرب لا أخلاقية؟
يطرح هذا الجدل سؤالا مهما: هل الموظف الحكومى الذى يعمل فى جهاز الخدمة المدنية هو موظف لدى الحكومة التى تمارس السلطة فى تلك اللحظة، أم موظف لدى الدولة التى تتبدل على إدارتها حكومات، وتظل هى الكيان السيادى الباقي؟
بداية ليس صحيحا أن الحكومة والدولة وجهان لعملة واحدة. والموظف العام، ثباته وبقاؤه فى وظيفته، هو رهن بثبات وبقاء الدولة، وليس الحكومة. والدليل على ذلك تتغير الحكومات، ويبقى الجهاز الإداري، وتنهار الدولة فتسقط الإدارة العامة بها. إذن الموظف العام يعمل لدى الدولة، وليس لدى الحكومة التى تدير شئون الدولة. ورغم احترام مبدأ حياد الخدمة المدنية، لا نتصور أن نلغى الأخلاق من ضمير الموظف العام، ويتحول إلى أداة مُجردة من الأفكار والمشاعر والآراء فى خدمة حكومة قائمة.
شواهد التاريخ تؤكد ذلك. عندما انقضى حكم الرئيس حسنى مبارك فى أجواء انتفاضة شعبية حافظ الجهاز الإدارى المصري، وفى مقدمته القوات المسلحة، على الدولة. وعندما لجأ المجتمع إلى التغيير مرة أخرى عام 2013، ساند الجهاز الإدارى التغيير، لأنه أدرك بفطنته ارتباطه بالدولة حفاظًا على مقدراتها، وليس الحكومة التى سعت إلى تغيير هوية الدولة ذاتها. وبالتالى ليس مستغربًا أن يكون تديين الدولة، أو أسلمتها، هاجسًا أساسيًا لدى تشكيلات الإسلام السياسى التى تريد أن تؤسس دولتها، والمدخل ليس فقط الهيمنة على السلطة، ولكن أيضا الاستيلاء على الإدارة العامة. وأظن أن ما يحدث فى سوريا منذ نهاية شهر ديسمبر الماضى يصب فى هذا الاتجاه.
من الطبيعى إذن أن يفكر قطاع من البيروقراطية الإنجليزية فى ارتباطه بقيم الدولة البريطانية، وليس بسياسات الحكومة، لأنهم موظفون لدى الدولة، ولا يمكن أن يتخلوا عن نظرتهم الأخلاقية للقيم العليا للدولة التى يعملون فى دوائرها. وبالتالى من غير المتصور أن نتمسك بنموذج ماكس فيبر النظرى للبيروقراطية، الذى أكد فيه حيادها السياسي، لأن فى النهاية الموظف العام هو مواطن، له أفكار واتجاهات ومشاعر، من الطبيعى ألا يظهر ذلك فى عمله لأن هناك قوانين ولوائح وقواعد تحكم مباشرته لمهام وظيفته، لكن فى اللحظات الفارقة، يعبر هؤلاء الموظفون عن إنسانيتهم، واحترامهم لقيم الدولة التى يعملون بها، حتى إن استدعى ذلك أن يقدموا استقالاتهم، فالمسألة ليست انحيازا سياسيا لحزب فى مواجهة حزب آخر، وهو جوهر حياد البيروقراطية، لكنه انحياز للدولة فى مواجهة سياسات غير مقبولة من الحكومة.