كمال زاخر
الكاتب صبحي موسى
[اشكالية تحرير ثلاثية: الإرادة ـ النص ـ العقل]
جزء أول
الجمعة ٣٠ يونيو ٢٠٢٥
يبلغ عدد صفحات الكتاب نحو مئتان وثمانون صفحة من القطع المتوسط، ولهذا قسمت العرض إلى جزئين، حتي يأتي وافياً للمحاور التى تناولها، وبغير أن يكون ثقلاً على القارئ.
وهو دعوة لقراءة الكتاب الذى يحتشد بتفاصيل مهمة ومثيرة لا تنقصها الجرأة وموثقة،
(١)
يقع الكتاب فى ستة فصول، تتناول بحسب العنوان "مأزق التنوير العربي"، وبحسب انطباعي هى تتناول "اشكالية تحرير ثلاثية الإرادة والنص والعقل"، ويأتي تناوله للأزمة فى التاريخ الحديث متدرجاً من عصر محمد على وحتى لحظتنا الراهنة، 1805 ـ 2025، أى ما يزيد على قرنين من الزمان، شهدت تحولات وتطورات علمية وتقنية وسياسية وحروب محلية وإقليمية وعالمية تركت بصماتها على صراعات المنطقة، وعلى سير اشكالية التنوير العربى، انطلاقاً ونكوصاً وتعثراً.
يأخذنا الكاتب فى اطلالة عاجلة على تجربة الغرب فى مسار التنوير، وكيف استطاع أن يدشن طريقه الى التنوير بفصل الدين عن الدولة، عبر محورين أو بفعلهما، ثورة البروتستانت والثورة الصناعية، وينبه أنهما لم يحدثا التغيير بشكل مفاجئ. فحركة مارتن لوثر ووجهت بعنف من القوى التي ادركت أنها ومصالحها في مهب الريح، فيما كان التحول الذي انتجته الثورة الصناعية "بمثابة تحول بطئ استمر نحو ستين إلى سبعين عاماً، ولم يكن تحولاً ثورياً بقدر ما كان تطويرياً" احتاج لنحو مائة عام حتى يؤتي ثماره، وحتى تتحول ادوات الإنتاج من الإقطاع إلى التصنيع، ومعه تتبدل اثقال القوى المجتعية، ويتبدى الصراع بين العمل والملكية، وتتواجه "أحلام الطبقات المجتمعية الصاعدة في مواجهة السلطات القديمة وامتيازاتها الإلهية".
ثم يحلل الكاتب ـ فى تمهيد لفصول كتابه ـ محاولات أو موجات التنوير العربي ـ بحسب تعبير الكاتب ـ ويَرُد تعثرها وفشلها إلى أنها كانت تفتقر إلى المراكمة، بسبب الصراع القائم والدائم بين من يرون أن النهضة تحتم "ضرورة الأخذ بما أخذ به الغرب، ومن ثم أخذوا يستلهمون مقولات فلاسفة عصر التنوير الأوربي، ويتشبهون بالزى الأوروبي ويرتادون الجامعات الأوروبية".
وبين من يرون أنه "لكى نتفوق على أوروبا كما كنا في الماضى فلابد من العودة إلى الماضى والأخذ بما أخذ به السلف الصالح".
يطرح الكاتب أهم ملامح الموجة الأولى، والتي انطلقت شرارتها بفعل الحملة الفرنسية التى صدمت الجمود الجاسم على المنطقة العربية وقتها، بما جاءت به من علماء ومشروعات وأدوات، لكونها خططت لأن تبقى طويلاً، لكنها لم تبق سوى ثلاث سنوات ونيف، لتبدأ التجربة التى قادها محمد على "الذى رغب في فى بناء دولة قوية على النظام الأوربي ولكن بشروط شرقية"، ويشير إلى مواجهات محمد علي مع الغرب المتحالف مع الدولة العثمانية، والتى انتهت الى فشل مشروعه الذي راهن على رأسمالية الدولة وليس الأفراد. لتحدث الردة الكبرى في عصر عباس وسعيد، ويعود الأمل في عصر اسماعيل، والذى "تشهد مصر فيه حراكاً ثقافياً مهماً، فى دوائر فنون الصحافة والمسرح والنشر، بفعل مجئ الشوام إلى مصر هروباً من بطش العثمانيين"، لكنه "سرعان ما تعثر مع انهيار مشروع اسماعيل".
ينقلنا الكاتب إلى الموجة الثانية التي جاءت مع ثورة 1919 "التى انتزع فيها المصريون دستوراً ومجلساً نيابياً، وأصبح لديهم تطلع حقيقي لبناء مجتمع حديث ومتطور" لكن الحراك الفكري والثقافي الذي نتج عنها لم يصاحبه حراكاً مماثلاً في أدوات الإنتاج، وفي مواجهة ثورة 19 ثم سقوط الخلافة يتم تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" 1928، والتى تعيد انتاج وتبني الدعوة إلى " العودة إلى الماضى والأخذ بما أخذ به السلف الصالح".
وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب يتحدث عن تنويرٍ عربي، إلا أن طرحه ينحصر في ثلاث مناطق دون بقية الخريطة العربية، وهى مصر والشام وشمال افريقيا (تونس والجزائر والمغرب)، ربما لأن بقية البلاد العربية كانت بعيدة عن دائرة الاشتباك مع الغرب فلم تستشعر فداحة واقعها.
الخط الذي يتبناه الكاتب بامتداد فصول الكتاب طول أمد "المعركة بين الفكر المدني ـ الذي لم يكتمل بناؤه، وبين الفكر الديني الذي لا يريد أن يتراجع إلى مكانه الطبيعي" مرده التحالف بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، وهو تحالف يتجدد ويمتد بصيغ متنوعة بامتداد زمن أزمة التنوير العربي.
في الفصل الأول "محمد علي وبدايات التنوير العربي" يقدم الكاتب عدة إجابات فلسفية وتعريفية عن ماهية التنوير، ثم ينتقل إلى تجربة محمد علي ورؤيته اثناء شروعه لبناء دولة حديثة، وحروبه التي خاضها خارج مصر وداخلها، ويشير الكاتب في ملمح يفكك غموض الصراع بين جبهتي السعي للنهضة: بين من يرى تحققها بالتمثل بالغرب وبين من يراها في العودة إلى انساق الماضى، حين يشير الى "حرب المورة" التى خاضها محمد علي بتكليف من السلطان محمود الثاني لإخماد الثورة التي قامت في اليونان، والتى تعد "تعبيراً واضحاً عن تغير ميزان القوى من الشرق إلى الغرب، وما كان للغرب أن يترك اليونان تحت براثن الاحتلال العثمانى" ويستطرد الكاتب "وما كان للأمر أن يخرج بعيداً عن سياق النزاع الأبدي بين الإسلام والمسيحية".
ويستعرض الكاتب دور محمد علي في ايقاظ الأمة العربية، وأزمته في تبنيه "الطابع العسكري الذي يضيق بالمناقشة ولا يقبل بتداول السلطة"، لكنه على جانب أخر "نجح في تكوين جيش قوي، وبناء قاعدة صناعية استطاعت تعزيز الأسطول البحري، وبدأ بها التحول من الاقتصاد الزراعي إلى اقتصاديات التصنيع".
يتعرض الكاتب لإنجازات خلفاء محمد علي، ويشير إلي قيام الوالي سعيد باشا باعفاء الأقباط من دفع الجزية، ثم يتوقف عند الخديوي اسماعيل، وتحويله مجلس المشورة إلى مجلس شورى النواب، ليعرف المصريون الطريق لانتخاب ممثليهم فيه، ويطور النظام الإداري للبلاد، وكذلك القضاء، ويفتتح قناة السويس، ويطور البنية المعمارية للقاهرة بعد انتقال مقر حكمه الى قصر عابدين، ويقوم بالعديد من الانجازات في مجالات التعليم والصحة والتخطيط العمراني والصحافة.
لكن الكاتب يشير إلى أن "اسماعيل ما كان له أن يسمح لخط التنوير أن يمتد على استقامته، لتفادي المساس بأي من مكتسباته أو امتيازاته كحاكم مطلق اليد، ليظل التنوير بمثابة منحة من الحاكم، وليس مكتسباً أصلياً حارب الناس من أجله حتى نالوه، وينقل الكاتب عن د. علي مبروك، ما اورده في كتابه "لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا" قوله "أن المثقف لم ينشغل بأن تكون لحداثته سلطة من داخلها، وظل يعوِّل على الدوام على تلك السلطة من خارجها، وهى سلطة الدولة، لذلك فإن الحداثة ظلت مطية الدولة". وينتهى أن أن التنوير انتكس مع الاحتلال البريطاني.
بين آباء التنوير واتجاهات التنوير ومشروعات التنوير يقترب الكاتب من فكر واطروحات عديد من الرموز التي ظهرت وتفاعلت ـ ايجاباً وسلباً ـ مع طرح التنوير ومساراته، والذى تبلور فى ثلاثة اتجاهات؛ تيار وطني وتيار قومي عربي وتيار أممي اسلامى.
وفيما لم يستطع التياران الأولان احداث تغيير فاعل فى معركة التنوير استطاع الأخير أن يرسخ اقدامه بفعل وتأثير سيطرة الثقافة الدينية على الريف المصري بطبقاته "حيث تنتشر الكتاتيب لحفظ القرآن، وحيث شيخ المسجد هو العالم الوحيد في القرية، وحيث يسود الطب البدائي، وحيث الخوف المزمن من الحداثة وتجريمها" ويُرجِع الكاتب فشل تجربتي محمد علي واسماعيل إلى انهما لم يستطيعا ـ وربما لم يفكرا ـ في اختراق طبقات الريف المصري.
ويُرجِع الكاتب تعثر التيار التنويري إلى أنه لم يدرك أن الاقتصاد يأتي أولاً "فدائماً ما يكون النهوض اقتصادياً أولاً وحين يَفعَل الإقتصاد فعله فى نفوس الناس، تبدأ العقول فى الانتباه إلى الفنون والآداب، وتأخذ فى الخروج من سردية الأديان القديمة، والتفكير في الحقوق والحريات. ووضع دساتير تنزع من الحكام ما يعتقدون أنه حقهم الإلهى، وتقيم توازناً بين مؤسسات الدولة، بما يضمن للشعوب أن تكون مصدراً للسلطة. ويتم تداول السلطة عبر الانتخاب الديمقراطي".
وحول هذا الجدل يستعرض الكاتب دور واسهامات ومعارك عديد من الشخصيات، سواء الداعمة أو المعوقة لحراك التنوير، من مصر والشام وتونس، يتقدمهم رفاعة الطهطاوى، و خير الدين التونسي، و جمال الدين الأفغاني ـ المختلف عليه، و محمد عبده، و نجيب عازوري، و رشيد رضا "والذي تأثر بفكره حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928، ليتحول جانب من التيار الإصلاحي إلى حمل السلاح، ويصبح أكثر راديكالية على المستوى الفكري وأكثر برجماتية على المستوى السياسي."
ويشير الكاتب إلى تبلور تيارين اساسيين هما التيار الإسلامي، والتيار العلماني (وطنى وقومي)، ويظل التيار العلماني "بمثابة طبقة هامشية يتحكم فيها جدل العلاقة بين الحاكم والتيارات الإسلامية." بحسب رصد الكاتب.
وفي رصده لمشروعات التنوير التي انتجتها أو حاولت انتاجها التيارات الثلاثة، يبدأ الكاتب بالإشارة إلى تصادم الأصوليات فيما بينها، وتصادمها مع التيار التنويري المدني، ويتأزم الأمر مع انشاء وطن قومي لليهود، ورفض تلك التيارات لهذا. وينتهي إلى مقارنة بين التنوير في الغرب واسباب نجاحه ونظيره في الشرق واسباب فشله أو تعثره.
يتوقف الكاتب عند رجال التنوير العربي، المشروع والمواجهات والمآلات، الشيخ على عبد الرازق، و الدكتور طه حسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نتابع بقية عرض الكتاب غداً السبت 31 مايو 2025