الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
ما أجمل أن نقلب الطاولة!
الآن، بعد أن استدعى نجيبُ محفوظ الجميعَ، من الفرعون إلى الرئيس، جاء وقت المواجهة الكبرى: أن يُستدعى هو نفسُه... أمام العرش!

[قاعة العرش – هدوء غير معتاد، كأنّ الأرواحَ تحسّ أنّ القادم ليس كأيّ مُحَاكَم]

المنادي (بصوتٍ يرتجف قليلًا):
ليتقدّم إلى المنصة...
كاتبُ الضمير، راوي أقدار الناس، ابنُ القاهرة،
نجيب محفوظ.

[يدخل نجيب محفوظ بخطًى وئيدة، يضع يده خلف ظهره، نظرة تأمّل معتادة في عينيه، وابتسامته الخفيفة المعهودة تزيّن شفتيه]

القاضي الأعظم (بصوت منخفض مليء بالرهبة):
يا نجيب، أنتَ الذي كتبتَ عنّا وكأنّك كنتَ بيننا...
أقمتَ محكمة وأنتَ في الدنيا، فصرنا نُحاكمك الآن في الآخرة.

أجِب:
هل أنصفتَ من كتبتَ عنهم؟
هل كنتَ شاهدًا أم قاضيًا؟
هل فتحتَ نوافذ الوعي أم أوهمتَ الناس بأنهم أحرار داخلَ زنازينَ من ورق؟
نجيب محفوظ (بهدوء لا يخلو من الدعابة): 
سيدي،
أنا لم أزعم النبوّة، ولم أرتدِ عباءة العدل...
كلّ ما فعلتُه هو أنّني أرهفتُ السمعَ، أنصتُّ إلى ما يقوله الناس في المقاهي وفي الحارات وفي الحلم... ثمّ نقلتُ.
كتبتُ ما رأيتُه، أكثر ممّا تمنّيتُه.

القاضي:
ولكنك مررتَ على الجلّاد والضحيّة مرورًا واحدًا،
أعطيتَ كلّ شخصيّة المنصّة لتتكلّم، حتّى بدا الشرُّ نسبيًّا، والخير احتمالًا.
أمَا كنتَ تخشى أن يضيع الحقُّ وسط الحكاية؟

نجيب محفوظ (ينظر إلى الأعلى ثمّ يعود إلى القاضي): 
الحقّ لا يُروى في سطر، بل يُكتشف في الرحلة.
مَن قرأَني طالبًا اليقين، فقد أخطأ المقصد.
أنا فتحتُ أبواب الشكّ، لأنّ الشكّ بدايةُ المعرفة.

صوت من الجمهور (ربّما شابٌّ ثائر): 
لكن لماذا لم تكن أكثر حدّة؟
أدبك في بعض الأحيان بدا محايدًا، كأنّك تخشى أن تصرخ.
نجيب (ينظر إليه بشفقة):
أنا كتبتُ في زمن الرقيب، وكان الرقيب في الخارج... والداخل.
لكنّني لم أصمت.
كتبتُ "أولاد حارتنا" وهم يعرفون أنّ الكبير هو الله، والجبلاوي هو الرمز، وأنّ كلّ مَن في الحارة — هم نحن.

القاضي (ينظر إليه طويلًا، ثمّ يسأله):
وأنت، يا نجيب...
ماذا تقول في نفسك الآن، أمام هذا العرش، بعد أن كتبْتَ عن الحياة والموت، عن الله والناس؟

نجيب (بصوتٍ خافت أقربَ إلى الهمس): 
أقول:

لو عادتْ بي الحياةُ، لكتبتُ أكثر عن الحبّ،
ولجعلتُ الحارة أوسع،
وأبقيتُ الموتَ أغمضَ، لأنّ الوضوح لا يليق بالأسرار الكبرى.
 [صمتٌ يلفّ القاعة... ثمّ تنهض الأرواح – احترامًا، لا تصفيقًا]
لكنّ نجيبًا يرفع يده بهدوء، وكأنّه يطلب أن يُتمّ شهادته، فينصت الجميع من جديد...

نجيب (بصوتٍ داخلي هادئ، كأنّما يكتب آخر جملة في رواية لم تكتَمل):
الأديب… ثائرٌ.
ولكنّه لا يثور في الشوارع،
بل يثور داخلكَ... خلسة.
ثورته لا ترفع لافتة، بل تهمس في أذنك عند منتصف الليل،
عندما تنهي روايةً وتبقى الفكرةُ معلّقةً في قلبك.
ثورتي لم تكن بالهتاف،
ولا بالأيديولوجيا،
بل كانت في أن أجعل القارئ يتساءل،
أن يرى أنّ القاتل قد يكون مظلومًا،
وأنّ الشيخ قد يكون هشًا،
وأنّ الحاكم… بشر.
أنا حرٌّ كالنيل،
صامدٌ كالهرم،
هشٌّ كأيّ إنسان.
لكنني كنتُ أكتب… كي لا أنهار.
أكتبُ كي أترك أثرًا، لا حكمًا.
كلمةً، ووصيّة، لا أمرًا.
[الستار يُسدل، لا نهاية هنا… بل بداية لتأمل جديد]
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ