ماهر الجاولي
في زمن تعصف فيه الأصوات العالية، والفتاوى المتعجلة، والانقسامات الحادة، يخرج صوت الأب جون جبرائيل، الراهب الدومينيكاني، بكلمات شفافة تحاكي جوهر الدين، وتحذر من ظاهرة باتت تتكرر في مجتمعاتنا: حين يتحول الإيمان إلى سلاح، والدين إلى متراس، والإنسان إلى حجر متحرك.

يقول الأب جبرائيل:
“لا أخشى الملحدين، بل المؤمنين المتعصّبين. أكثرُ ما يُقلقُ قلبي ليس أن يترك البعضُ الإيمان، بل أن يعتنق بعضُ المؤمنين قساوة القلب وتيبّس العقل. أن يصيروا حجارةً تمشي، أفواههم تصرخ، وعيونهم تُطلقُ الرصاص. أن يتقنوا قبحَ التكفير أكثر من فنّ الغفران، أن يجعلوا من أنفسهم حراسًا على أبواب الله، يمنحون صكوك القرب أو يُغلقونها في وجه المختلف.”
هذا الصوت الذي يشبه حد السكين في وضوحه، يضع إصبعه على جرح مفتوح: أن الخطر الحقيقي لا يأتي من خارج أسوار الدين، بل من داخله، من الذين يحتكرون الإيمان ويحاولون تطويعه وفق أهوائهم.

في إشارة معبّرة، يستحضر الأب جبرائيل بيتًا للشاعر أحمد مطر، يقول فيه:
“يتّهمون اللهَ بالكفر، حتى يطلبَ المغفرة من عندِ الوَثن.”
في هذا التصوير الموجع، تصبح القداسة أداة تهديد، لا وسيلة خلاص. ويصير الإيمان سلطة فوق الناس، لا رفيقًا للقلوب.

ويمضي الأب جبرائيل محذرًا:
“الخطر لا يأتي من الخارج، بل من الذين حوّلوا الدين إلى حاجز بين الله والإنسان، والإيمان إلى علامة تجاريّة، والمحبة إلى شعارٍ أجوف. الخطر في من يجلد باسم الحقّ، ويصرخ باسم الرحمة، ويكره باسم الله.”
إنها أزمة أخلاقية ودينية معًا. حين يغيب جوهر الإيمان، يصبح التدين مظاهر خاوية. الإيمان، كما يصفه جبرائيل، “لا يلبس عبوسًا، لا يسيرُ كالسياط على ظهور الناس. الإيمانُ نبعٌ هادئ، لا يحتاج إلى مكبّرات. الإيمانُ نارٌ تدفئ، لا تُحرق.”

ويختم الأب الدومينيكاني نصه بخوفه من مظاهر التدين الجوفاء:
“أنا أخاف من الوجوه التي تصلّي وهي تلعن، وتصوم وهي تمضغ الحقد في سرّها، وتتبرّك وهي تُقصي الفقراء عن مائدتها. أخاف من الذين يعبدون الطقس وينسون الوجوه التي يمرّ بها الله متنكّرًا في هيئة الغريب، أو الجريح، أو الشريد.”

ثم يضع خلاصة تأمّله:
“الدين من دون محبّةٍ جسدٌ بلا روح، والصلاة من دون رحمةٍ صدًى يضيع في الفراغ، لا يصعد، ولا يُسمع.”
كلمات الأب جون جبرائيل ليست مجرد عظة، بل رسالة تحرّك الضمائر في زمن يعلو فيه صوت التشدد على صوت الرحمة، وتعلو فيه الشعارات على الأفعال. فالدين، كما يؤمن، كان وما زال للناس، لا عليهم.