الأب أغسطينوس بالميلاد ميلاد سامي ميخائيل بطرس
مصر / المنيا
28 / 03 / 2022 م.
ما الفرق بين الفرح والسعادة؟
يتمنى الناس السعادةَ لبعضهم البعض، في مناسبات مختلفة كمثل رأس السنة، لكن ما هي السعادة؟ كيف يمكن تحديدها؟ مفهوم الإنسان المعاصر للسعادة لم يتغيّر منذ الأزمنة الأولى، أي أن السعادة هي في إحراز المزيد من الأشياء المادية والتعاسة هي عندما تأخذ مني ما أملك.
حتى ولو وضعنا جانباً أخلاقية هذا المفهوم، يبقى العيب في جوهره لأن السعادة لا يحملها تكديس الممتلكات أو السلطة أو الصيت أو الملذات. الأشياء المادية عاجزة عن حمل السعادة الحقيقية، وهي لا تحمل إلا الحياة المملّة (taedium vitae) التي من بعدها يغمر الإحباط الإنسانَ بشكل يفوق ما قبلها. من المثير للاهتمام أن نشير إلى أن كلمة "سعادة" ("تيخي" في اليونانية القديمة) نادراً ما تَرِد في العهد القديم الكتاب المقدس، دون أن تَرِد أيّ مرّة في العهد الجديد. التعبير واسع جداً وغير دقيق. والكلمة بحد ذاتها لا معنى لها. بالمقابل، يستعمل الكتاب المقدس عبارة أكثر وضوحاً وتحديداً: "الفرح" ("خارا" في اليونانية القديمة) التي تشكّل السعادة إحدى مكوناتها.
يقول السيد المسيح عن الفرح: “لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ”. وهو أيضاً يشير إلى مصدر هذا الفرح: “إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ” (يو 10: 15ـ11). هنا يكمن الجواب على السؤال الذي منذ الدهور. السعادة الحقيقية، الفرح الحقيقي هو أن نحب الله ونكون معه. هذا ما يؤكّده الرسول بولس بشكل كامل في قوله: “لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ” (روما 17:14). ويضيف يوحنا: "…ولاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ"(يو 22: 16)، ما يعني لا شيء ولا لا أحد، لا العذاب ولا الحرمان ولا الاضطهاد ولا حتّى الموت.
هذا الكلام يفهمه جيداً الذين وجدوا حلاً مع أنفسهم لمسألة البشرية القديمة، والذين وجدوا السعادة: القديسون والذين أرضوا الله في الماضي والحاضر. مع هذا، فإن سلوكهم يحيّر الآخرين. لم يستطع الرومان القدماء أن يفهموا سبب فرح المسيحيين. الوثنيون المعاصرون، وأغلبهم يظنون أنّهم ويسمّون أنفسهم مسيحيين، يسألون السؤال نفسه. تنتشر فكرة عامة عاطفية رومانسية ذات منشأ أوروبي غربي، وهي تُقَدَّم كجواب على هذا السؤال: وهي أنّ في العالم القديم كان للناس فهم محدود لما يجري بعد الموت فكانوا يخافونه، وقد حمل المسيحيون فكرة أن الناس يعيشون بعد الموت وأنّ المسيح قد خلّص الجميع وغفر للجميع ووعدهم بالحياة الأبدية والسعادة في الملكوت، ولهذا السبب كان المسيحيون شديدي الفرح. هذه الفكرة، شائعة بشكل أو بآخر، لكنها تفتقد للدقة بشكل كامل.
بالحقيقة، لم يَعِد المسيح أبداً بالبركة في الملكوت. غالباً ما يورِد تحذيرات مرعِبة: "… هناك يكون البكاء وصرير الأسنان… اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِه" (مت 24: 51)، "يمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَاب أَبَدِيٍّ…" (مت 25: 46). والرسول بطرس في كلامه عن خطر العذاب الأبدي الرهيب يذكّرنا بأنّه حتّى الأبرار بالكاد يخلصّون أنفسهم، وأنّ هذا لا يكون للفجّار والخطأة” (1بط 4: 18).
فكرة أخرى ذات منشأ بروتستانتي وهي تنتشر بين المسيحيين المتحررين مفادها أنّ المفهوم التعيس عن الحياة بعد الموت وصعوبة الخلاص هو نتاج مرحلة متأخّرة متأثّرة "بالرهبان والنساك الكئيبين العادمين الفرح"، وأنّ فيما قبل ذلك، كان يسيطر على المسيحية "مزاج مبتهج وفهم بأنّ خلاص الإنسان يأتي فقط من إيمانه بالمسيح". إن أصحاب هذا المعتَقَد يخترعون لأنفسهم نسختهم من المسيحية لا أساس لها ولا برهان، لا في الإنجيل ولا في الرسائل، ولا في التاريخ المسيحي.
على سبيل المثال، اقرؤوا كتاب "الراعي" لهرماس، وهو كاتب من القرن المسيحي الأول، وسوف ترون كم كان مسيحيو تلك الفترة متطلّبين فيما يختصّ بالخلاص وكما كان فهمهم واضحاً بأن أصغر إشارات العمل غير الأخلاقي تضع الإنسان في خطر الموت الأبدي. كُتِب هذا الكتاب متأثّراً بالكلمات المرعِبة فيما ترنمه الكنيسة عن أن آلام الخاطئ لا تُحصى. وهذا كان ينطبق أيضاً على نقاوة الإيمان والإخلاص للكنيسة.
من هنا، أن وجهة النظر المسيحية قد تبدو أقل إشراقاً بكثير من تلك الوثنية. إن لدى الوثنيين "مملكة من الظلال" بعد الموت، غير محددة بوضوح، ويمكن للإنسان أن يشكّل عنها الكثير من تصورات المختلفة. عند أحد الأطراف، توجد "الحقول الفردوستية (Elysian)" كمملكة يسهل دخولها. وعند الطرف المظلم يوجد مفهوم العدم والدمار الكامل بعد الموت. بحسب سقراط "بما أني لم أتألّم قبل ظهوري على هذه الأرض، يعني أني لن أتألّم عندما أتركها". إذا قارنا هذا بالصورة المرعبة للعذاب الأبدي والجحيم فسوف نرى أن النظرة المتحررة عن أسباب فرح المسيحيين الأوائل هي غير صحيحة بشكل جوهري. فبرغم ذلك، الفرح المسيحي كان موجوداً وما يزال، وهو يلمَع في كل سطر من سطور سيَر الشهداء والمجاهدين، ويتوهّج في حياة الرهبان والعائلات المسيحية. بالحقيقة، وحده الفرح المسيحي يستحق هذا الاسم. وبقدر ما يكون الإنسان روحياً يكون فرحه أكثر وضوحاً وكمالاً. هذا الفرح، هذه النظرة الزاهية إلى العالم لم يترك المسيحيين الأوائل، حتّى خلال العذاب وعند باب الموت.
ما هو إذاً مصدر هذا الفرح؟
الجواب بالطبع هو الإيمان. لكن ليس كما يفهمه البروتستانت. ليس إيمان شكلياً لا حياة فيه بلا جهاد روحي بطولي (فالشياطين تؤمن وتقشعر)، بل بالأحرى هو إيمان منعِش فاعل يعيش في قلب نقي يستدفئ بنعمة الله، إيمان متوهّج بمحبة الله ورجاء مدعِّم فيه. يقول أحد الكتّاب المسيحيين المعاصرين: أنّه لا يكفي أن نؤمن بالله بل يجب أن نصدّقه أيضاً. كلمات الطِلبة "لنودِع ذواتنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا للمسيح الإله" تصف الإيمان المسيحي بشكل صحيح. إنها إيداع كامل واثق بنوي للذات بين يدي الله. هذا هو ما يفتح، الآن كما في الماضي، أبواب السعادة الحقيقية. إذا وثق المسيحي بالله يكون مستعداً لتقبّل أيّ شيء منه: الملكوت أو الجحيم، الآلام أو التعزية، لأنّه يعرف أنّ الله حسن بشكل لامتناهٍ. إنّه يعاقبنا لخيرنا. إنّه يحبنا كثيراً حتّى أنّه مستعد أن ينقل السماء والأرض ليخلّصنا. إنه لا يخدعنا، ولا لأي سبب، وسوف يخلصنا بأي شكل. يعبّر القديس أغسطينوس عن ذلك بالقول: "الملاذ الوحيد من غضب الله هو عطفه".
مع هذا النوع من الفهم، يسكن الفرح والنور بشكل راسخ في قلب المسيحي، ولا يبقى مكان للغمّ. فالعالم هذا الكون غير المحدود، هو لله إلهي. ما من حَدَث، من الأصغر إلى الأعظم، ممكن أن يتمّ من دون إرادته، وهو يحبني بشكل لامتناهٍ. حتّى هنا على الأرض، هو يسمح لي بدخول ملكوته، كنيسته المقدسة. هو لن يطردني أبداً من ملكوته طالماً أنا مخلص له. فوق هذا، إذا سقطتُ يرفعني ما أن أدرك خطيئتي وأذرف دموع التوبة. لهذا أنا أثق بأن خلاصي وخلاص كل الناس، ليس فقط مَن أحب، هو في يدي الله.
الموت لا يُرعِب، فقد غلبه المسيح. الجحيم والعذاب الأبدي ينتظران أولئك الذين بوعي وبإرادة حرّة تحوّلوا عن الله، الذين يفضّلون ظلام الخطيئة على نور محبته. الفرح والبركة الأبدية ينتظران المؤمنين "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (1كو 2: 9). فليساعدنا الله الكلي الرحمة على بلوغ الثقة الكاملة به. وليجددنا نحن الضارعين إليه.
يشوع ابن سيراخ الإصحاح الرابع عشر
السعادة والحياة المُطوَّبة
يفتتح الإصحاح بالكشف عن الحياة المُطوَّبة، يترجمها البعض "الحياة السعيدة!"، غير أن الحياة المُطوَّبة في حقيقتها تحمل مفهومًا أعمق بكثير من "الحياة السعيدة" كما يفهمها الكثيرون. فالسعادة في نظر الكثيرين هي حياة تَتَّسِم باللذة والشبع والفرح والسلام الخارجي، بلا ضيقات أو متاعب في العالم. غير أن الحياة المُطوَّبة تحمل هذه السمات، لكنها تمسّ أعماق القلب، حيث يُقِيم الله ملكوته فيه (لو 17: 21). ويرفع الروح القدس أعماقه ليختبر في كل يومٍ عربون السماء على مستوى جديد، فترتفع أعماق الإنسان من مجدٍ إلى مجدٍ. في وسط المتاعب اليومية يشعر أنه أشبه بطائرٍ يُحَلِّق في السماويات، لا تستطيع فخاخ الشيطان ولا مؤامرات البشر أن تُفقِدَه سلامه الداخلي وفرحه في الربّ.
ربما يتطلَّع البشر إلى المؤمن المُطوَّب أنه إنسان محروم من أمورٍ كثيرة، رجل أحزان وآلام، أما هو إذ يسلك في صحبة المصلوب، ويستظل تحت جناحيه، يشعر أنه أسعد كائن على وجه الأرض.
في الإصحاح السابق أوضح ابن سيراخ أن الذي تكمن سعادته في تكوين صداقات مع الأثرياء الأشرار، واشتراكه في ولائمهم وحفلاتهم، سرعان ما يكتشف حماقته حينما يسقط في ضيقة، فيتخلّون عنه، كمن لم يسبق لهم معرفته. وأحيانًا يتهمونه ظلمًا ويشتهون تدميره. الخطر الحقيقي لا يصدر عن الثروة التي بين أيديهم، إنما عن الاتجاه الطبيعي للساقطين في محبة المال واكتناز الثروة واللذة والشهوة.
أحد ثمار خطية آدم، أن نسله صار يميل إلى عبادة ما هو صالح عوض عبادة خالقها، إذ لم يعد يُمَيِّز بين العطية والعاطي. الثروة في ذاتها ليست مشكلة. إنما تصير خطرًا متى وُجِد الجشع، وكأن القلب الفاسد هو مصدر مشكلة الإنسان مع الثروة.
المسيحي وحياة الفرح
في وسط عالم متغير يسوده القلق والاضطراب والهم، يبرز سؤال يلح على أذهاننا وهو: كيف أقتنى حياة الفرح الثابتة التي لا يشوبها تردد ولا نقصان؟! لماذا نفقد أحيانًا إحساس الفرح وننحصر في ألم وندم أو قلق أو مخاوف؟!
فما هو الفرح المطوب وكيف نقتنيه؟!
أولاً: مفاتيح حياة الفرح
1 ـ مفتاح التوبة:
2ـ مفتاح اكتشاف معنى الحياة:
3ـ مفتاح التسليم:
4ـ مفتاح النظرة الأبدية:
ثانياً: دعوة للفرح
ثالثاً: علامات حياة الفرح الحقيقي
رابعاً: الفرح من ثمار الروح القدس
أولاً: مفاتيح حياة الفرح
1ـ مفتاح التوبة:
هل اختبرت بالفعل لحظات انسكبت فيها عند قدمي المسيح تعلن ندمك عن ماضٍ متعثر حزين، وتصميمك على أن تحيا بطريقة أقدس؟
أ ـ إن خبرة سقطاتنا المؤسفة هي النشاز الأساسي في لحن حياتنا الجميلة؟ فما من مرة انحدرت حياتي فيها إلى هوة الخطية، إلا وشعرت بالألم يمزقني، والندم يهدني، والخوف يملاني! ولو أننا بحثنا عن أسلوب سليم نتعامل به مع طاقة الندم الهائلة التي تجتاح حياتنا عقب السقوط، فلن نجد ذلك إلا في نور الإنجيل.
ب ـ المسيح يسوع ينير قلوبنا ويدعونا قائلاً: "وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً" (يو 6: 37) المسيحية تحول طاقة الندم إلى طاقة توبة، وأحزان الخطية إلى فرحة صلاة واتحاد بالله. المسيح يفتح قلبه المحب، للخاطئ النادم ويجعله ينزل إلى بيته مبرراً.
أخي الحبيب / أختي المباركة، فتش وأنظر، لعل خطية محبوبة هي التي منعت سكيب الفرح السماوي من أن يغمر حياتك. هيا نقضي لحظات قليلة نفحص فيها أنفسنا، لنسلمها للرب في توبة صادقة وعهد مقدس!
2ـ مفتاح اكتشاف معنى الحياة:
لعل الآفة الأساسية الكامنة وراء متاعب هذا الجيل ـ في العالم كله ـ هي: إما الإحساس بتفاهة هذا العالم لدرجة الملل والسخط، وإما الإحساس بمجد هذا العالم لدرجة التعبد والتأليه.
يبرز هذا السؤال لماذا أنا موجود؟ سؤال يتدارسه فلاسفة العصر وأدباءه. وما لم يعثر شبابنا على جواب مشبع لهذا السؤال، فحتمًا سيتردى في مهاوي الانحلال والإلحاد والقلق المربك.
ليست الحياة عبئًا ولا الوجود زائدًا عن الحاجة. كما يتصور الوجوديون الملحدون وبعض أدباء العصر. وليس مجرد وجود ضيقات طاحنة أو آلام مرة أو مظالم مؤسفة دليلا على انعدام معنى الوجود. فاللحظات القليلة التي نقضيها بجوار مريض نبثه الحب والتشجيع، واللحظات التي نقف فيها بجوار متألم حزين نسنده بالحنان والصلاة والأخوة العملية، واللحظات التي نختطف فيها رفيقًا من نيران الخطية أو هوة اليأس، هذه جميعًا تشعرنا بأن الحب هو الحل الأساسي لمشكلة الوجود، وأننا مخلوقون من فرط الحب الإلهي، وليس ذلك فحسب بل حينما أخطأنا تألم الرب عنا ليخلصنا، فأعلن لنا بذلك حبه، ويبقى علينا أن نتألم نحن أيضًا من أجل اسمه، ومن أجل أخوته المطحونين علامة حبنا له ولهم.
هنا نكتشف رسالتنا، وخدمتنا، ومعنى الحياة والوجود: أن نخدم من كل قلوبنا فنفرح ونسعد، أن نخرج من أنانينا وعزلتنا لننسكب على مذبح الحب ذبائح خدمة مقدسة توحد البشرية وتجليها.
هيا نقدم الحب لكل بعيد أو منبوذ، أو محروم، أو مخدوع، أو تائه، فهذا مفتاح أساسي لأفراحنا وأفراحه! فيفرح بنا المسيح، فنحن "بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ." (أع 17: 28).
3ـ مفتاح التسليم:
صعب أن يفرح الإنسان وهو في عمق التجربة والضيقة، لكن الرسول بولس يتحدى المشاكل قائلاً: "الآنَ افرحُ فِي آلاَمي"(كو 1: 24)، "لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ والضرورات وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ" (2كو 12: 10).
متى يفتح الرب أعيننا فنكتشف سر التسليم الواثق ونتخلى عن همومنا الطاحنة؟!
مشكلتنا الحقيقية أننا نضع المشاكل بيننا وبين المسيح، فلا نراه من خلالها، وتختفي من أمامنا صورة وجهه المحب، وفعل يمينه المقتدرة. الأجدر بنا أن نضع المسيح بيننا وبين المشاكل فنراها ـ من خلاله ـ هينة، وبسيطة مسبقًا.
قال ألبير كامي مرة: "هذه الحياة تستحق الانتحار، ولكنى لا أفضل ذلك" ولكننا نقول لأمثاله: مرحبًا بالألم، ما دمنا في حضن الله ودائرة المسيح، مرحبًا بمخاوف المستقبل ومجهولات الحياة، وأتعاب الخدمة والجهاد فيها، فكل شيء يسطع نورًا إذ ندخله معنا إلى حضرة المسيح.
4ـ مفتاح النظرة الأبدية:
قال فولتير قديمًا: "الإنسان يولد ويعذب ثم يموت" وقال بيكيت: "الإنسان يخرج من ظلام الرحم، ويمضي إلى ظلام القبر، عابرًا ظلمات الحياة"، وقال فرويد: "فلنترك السماء للملائكة والعصافير!".
أما نحن البسطاء، فنقول لهم بملء الثقة: هيا خذوا من المسيح نورًا يكشف لكم معالم الطريق، فها الأبدية تسطع أمامنا بكل أفراحها، والسماء تشدنا إليها بكل أمجادها، هناك شيء آخر بعد القبر! وفى هذا قال الحكيم: "جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ" (جا 3: 11).
إذن فهناك شيء ما بعد القبر؟! هناك الوجود الحق، والفرح الحق!
إن تطلعاتك الأرضية، نحو الجسد والمادة والمركز والاسم الحسن لن تزيدك فرحًا بل قلقًا، ولكن لحظات المخدع والسجود الصامت بين يدي الله تسكب في قلبك نورًا وتعرفك الطريق. فهناك خطيئة تحتاج إلى توبة، وهناك مشاكل تحتاج إلى تسليم واثق...
ثانياً: دعوة للفرح
الإنسان مدعو لمشاهدة عمل الله والتمتع بخلاص النفس، والاشتراك مع صفوف الملائكة في الفرح بخاطئ واحد يتوب، فحياة الفرح إنما تعبر عن حضور الرب الدائم في حياة الإنسان:
1ـ الفرح بالرب
الفرح بالرب وبالعشرة الاختبارية، والشركة مع الله، حيث (صدق كلمة الله، وصدق مواعيده، وبركة الإنجيل كرسالة شخصية لكل إنشان، وعمل الله اليومي في حياتنا).
2ـ الفرح بتكملة الآلام المسيح فينا
أكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي من أجل جسده الذي هو الكنيسة، الآلام كصديق للعريس، والإهانة من أجل اسمه "مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهارِ" (رو 8: 36) "حْسِبُوهُ كل فرح يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ في تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ" (يع 2: 1) "مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ" (2كو 11: 29) "إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ" (رو8: 17)
3ـ الفرح بمجد المسيح وإعلانه:
فأكون بحياتي سبباً بركة لمجد السيد المسيح حتى لا أسمع قوله: "لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ" (رو 2: 24) أو قوله: "وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ" (مت 18: 7).
4ـ الفرح بالأبدية:
نتطلع إلى الأبدية ونحن بعد في الجسد من خلال الصلوات والتسابيح ولسان حالنا: "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (في 1: 23)، "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (في 1: 21).
5ـ الفرح بعضويتنا مع الأخرين:
في شركة جسد المسيح الواحد، ودعوة كل واحد ليقترب من الله ويحيا معه في إيمان واثق، وتوبة حقيقية، ورؤية الناس والالتقاء بهم حول الهدف الأعلى وهو خلاص النفس والتمتع بالمسيح الفادي في الأبدية السعيدة.
6ـ الفرح مع الأخرين:
"فَرَحاً مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ" (رو 12: 15). فالإنسان الأمين هو يقتسم مع المحيطين حالتهم سواء في الفرح أو الألم جاعلاً أمامه مبدأ: "لأَنِّي لِهَذَا خَرَجْتُ" (مر 1: 38)، "لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ" (أش 61: 1).
7ـ الفرح بتوبة الخطأة
الفرح بتوبة الخطأة ورجوع الضالين (الفرح بالخروف الضال):
"لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ" (لو 15: 24)، والفرح بالدرهم المفقود حين نبحث عنه ونجده.
8 ـ الفرح بالخدمة والتكريس:
لأنه مجند تحت لواء ملك الملوك ورب الأرباب، ويستخدمه الرب لخلاص النفوس، وكم من النفوس كانت على حافة الهاوية والرب استخدمه لخلاصها، وقبول توبتها.
9ـ الفرح بتتميم الوصية:
"أِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً افْرَحُوا" (في 4: 4). إنه فرح ثابت بسبب إيماننا بالمسيح الفادي صانع الخيرات، لهذا نحن فرحين كل حين، واثقين في رعاية الرب ومحبته لنا "وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ" (يو 16: 22).
10ـ الفرح رغم الآلام:
لا يعبأ بالآلام، ولا بالطريق الكرب، لكنه بالرجاء يرتفع إلى حيث المجد العتيد "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَـانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا" (رو 8 :18)، "لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً" (2كو 1: 5)، لأنه "بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضًا مُبْتَهِجِينَ" (1بط 4: 13).
11ـ الفرح ببيت الرب:
ـ "فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ" (مز 122: 1)
ـ وفرح بالحياة مع الرب "أِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضًا افْرَحُوا" (في 4: 4)
ـ وفرح بعبادة الرب "اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ" (مز 100: 2)
ـ وفرح بلقاء الرب يسوع وصحبة أهل بيت الله والملائكة والقديسين.
12ـ الفرح بالمكافأة الأبدية:
"وَلَكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهَذَا أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ" (لو 10: 20) هنا سيأخذ في الأبدية عوضاً ما قدمه في حياته من عطاء في الخدمة.
ثالثاً: علامات حياة الفرح الحقيقي
1ـ السلام الداخلي:
فالقلب الفرحان ينضب فرحاً يظهر في كل جنبات حياته، وعلى وجهه ابتسامة تعبر عن فرحه الداخلي، فمصدر فرحه هو الصلة القوية بإله الفرح ومصدره.
2ـ الاستعداد للبذل:
كل وقت وفى أي مكان، وتحت أي ظروف، لا يتعب ولا يكل، ولا يطلب ما لنفسه، بل ما للخدمة فهو "لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ حَافِظُ إِسْرَائِيلَ" (مز 121: 4).
3ـ الثقة والثبات:
لديه ثقة في الرب وثبات لا يتزعزع، مهما هاجت الأمواج ولسان حاله يتلو: "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ" (مز 27: 4) وعندما قالوا لأثناسيوس: (العالم ضدك يا أثناسيوس) رد قائلاً: "وأنا ضد العالم".
4ـ العشرة الدائمة مع الرب:
الممارسات الروحية بالنسبة له هي ينبوع عجيب للفرح "فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ" (يو 20: 20) ومعناه أن رؤية الرب من خلال العشرة المقدسة تعطينا فرحاً ينسينا الآلام الصليب والجهاد، ويمتعنا بأفراح القيامة.
5 ـ القيادة بالرب:
في تسليم وخضوع كامل لقيادة الروح القدس في طريق الحياة، كما قاد المجوس إلى بيت لحم... وقيادة الرب له سر النجاح والفرح الحقيقي.
6ـ الدعوة للفرح:
قائلاً: "ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ" (مز 34: 8)، "كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضاً وَافْرَحُوا مَعِي" (في 2: 18)، أخيرا يا أخوة افرحوا في الرب" فهذه علامة أنه خادم حقا يعيش الفرح الدائم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
رابعاً: الفرح من ثمار الروح القدس
فهو فرح روحي كثمر لعمل الروح القدس في الإنسان، وبالأولى في حياة الإنسان المقود بروح الله القدوس، ودائماً نفرق للشباب بين ثلاث كلمات:
1ـ اللذة = Pleasure
من كلمة Please أي يسّر أو "يبسط" شخصاً ما… ومن أمثلتها لذة الأكل أو المال أو الجسد… وكلها "ملذات" كثيراً ما نخطئ في الحصول عليها بطرق غير سليمة، فنحصل على لذة مؤقتة، سرعان ما تنقلب إلى ما يسمى "الإحساس بالذنب" (Sen of Guelt)، وهو إحساس مؤلم للغاية، بسبب تعب الضمير والندم على الخطيئة التي ارتكبناها.
لهذا قال لنا السيد المسيح عنه: "مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا" (يو 13:4)، فماء الخطيئة مالح، لا يروى الإنسان، بل يزيده عطشاً، فيتكرر سقوطه، ويتحول الفعل إلى عادة، والعادة إلى جزء من الشخصية… فقديماً قالوا: "الشخصية مجموعة عادات تمشى على قدمين!!".
2ـ السعادة = Happiness
وكلمة السعادة بالإنجليزية "Happens"، مأخوذة من أي شيء "يحدث"…
لهذا فالسعادة هي إحساس طيب، لكنه مبنى على "الأحداث التي حولي"… فإن كانت مفرحة أفرح، وإن كانت محزنة أحزن!! إنه فرح قادم من الخارج، إن توفر حدوثه تمتعت به، وإن جاءت أحداث مؤلمة، حلّ الحزن بدلاً منه!
3ـ الفرح = Joy:
وهنا يكمن الفرق الهائل بين "السعادة" و "الفرح".
فالسعادة مبنية على الأحداث من حولي، لكن "الفرح" هو ثمرة من ثمار الروح القدس، ينبع من داخلي إلى الخارج… فمهما كانت أحداث الخارج المحيط بي… أستمر فرحاً بالرب… لأنني واثق أنه سيتحوَّل الحزن إلى فرح، والظلمة إلى نور، وحتى اللعنة إلى بركة.
الفرح معناه أنني أواجه العالم بالمسيح الساكن داخلي، وهو القدوس القادر على كل شيء، والحكيم حكمة لا نهائية، والقدير قدرة غير محدودة، والمحب محبة مطلقة!!.
إنه فرح بالرغم من القلق، والاضطرابات المحيطة، إنه فرح الشعور بالحفظ الإلهي وبالمعية الإلهية والتسليم الكامل للرب...
إذن… تعالوا نقتنى الفرح… فالفرح هو من الرب، وبالرب، وفى الرب…
من الرب… أي أنه مصدر هذا الفرح.
وبالرب… أي أنني فرحان به شخصياً وليس بعطاياه.
وفي الرب… الذي يحوِّل الشر إلى خير، وفيه أنا واثق أنه سيصنع كل خير.
أحبائي، مسيحنا "هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عب 13: 8) فكما كان بالأمس معنا نثق أنه سيكون معنا في المستقبل يدبره ويضمنه ويأمر بالبركة لكل من يخدمه، فلا ننزعج من جهة المستقبل بل نضعه في يده الحافظة.
نصوص إنجيلية للتأمل:
الابن الضال: (لوقا 15: 11ـ 24).
السامرية: (يو 4 1: 41)