د. أماني فؤاد
كنت كلَّما استمعت للسيدة أم كلثوم، أو قرأت عنها؛ شعرت أننى أمام امرأة استثنائية، موهبة فذة، قادرة على تطوير ذاتها فى كل مرحلة، قامة شامخة فى الغناء، سواء فى اختيار الكلمة واللحن، أو عظمة الأداء، شخصية سحَرت الجميع، وهيمنت عليهم؛ فأخرجت أجمل ما لديهم.

فكرتُ كثيرًا كيف استحوذَت هذه السيدة على قلوب وعقول معظم الشعراء والملحِّنين فى أجيال متلاحقة، لمْ تأخذ أجمل ما لديهم فقط؛ لكنها بشخصها، وقدراتها، وأسلوب تعامُلها؛ أوجدت الدافع لكل واحد على حِدَه؛ ليبدع، وهيَّأت الطقس المحفِّز، الذى جعلهم يُخرِجون أجمل ما فى قدراتهم على العطاء.

يشكِّل الكاتب حسن عبد الموجود؛ القاص والصحفى كتابَه «أم كلثوم.. من الميلاد إلى الأسطورة»، - الصادر عن دار ديوان، ٢٠٢٥ - من فصول قصيرة تتصدرها أسطوانات معنوَنة، فى قلْب كل واحدة صورة لكوكب الشرق، يحكى - فى كل أسطوانة - معزوفات حياة غنية بالتجارب الفنية، انتقالات فى مسيرتها، ومواقفَ، أو اسم أغنية صدَحت بها، وقصة إبداعها.

وتتوالى فصول السيرة الكلثومية، تروى محطاتٍ مهمةً من تاريخ إبداعات أم كلثوم وحياتها، منذ طفولتها، واحترافها الإنشاد، إلى أن صارت شمس العربية الأكثر إشراقًا، وتركِّز السيرة على وجودها كمطربة، صانعة أغنيات، شكَّلت تاريخ مصر الغنائىّ الكلاسيكى، ومن مجموع هذه المواقف، التى تفضِى بعضها إلى بعض، فى حراك إنسانى طربى، تكتمل ملامح صورة واسعة عن أم كلثوم.

ولشدة إعجاب الكاتب بصوت أم كلثوم؛ يجسده كأنه كائن منفصل عنها، كائنٌ يتعين إجلاله وتزكيته بمفرده؛ ليَظهَر فى الصورة الأبهى، والحدب عليه طيلة الوقت، جوهر حياتها الأهم، ولأنها تيقنت من هذا؛ راحت تغذيه وتثقِّفه ليكون أكثر تعبيرًا عن حياة الإنسان، وعواطفه الشخصية، والوطنية، حيث سخَّرته أيضًا للمجهود الحربى، وجمْع التبرعات بعد نكسة ١٩٦٧.

يقُص سارد عليمٌ حكاياتِ السيرة، ولا يتقيد بتسلسُل زمنى؛ بل يتنقل فى الزمن؛ لتكتمل المَشاهد الأهم فى علاقات المغنِّية والفنانين الذين تعاونت معهم؛ شعراء وملحِّنين، وعازفى فرقتها الموسيقية، وأعلام المجتمع، وكيف تعاملت أيضًا مع موهبتها، وحرصت على وضْعها فى إهابها الأكثر اكتمالًا. فى كل فصْل يبرِز الكاتب زاوية رؤية لكوكب الشرق؛ ليستزيد القراء من معرفتها.

فى كل هذه الحكايات التى يسردها الكاتب يمكننا استخلاص قدرة هذه السيدة على تطوير ذاتها المستمر، فى شخصها وثقافتها، وذائقتها، ومظهرها وأناقتها، هذه المرأة التى طلبت الكمالَ فى كل شىء، واستطاعت أن تحققه، حتى فى التقنيات والوسائط التى تخدم غناءَها، مثل قصتها مع الميكروفون، أو اختيارها أن ترتدى من أفخم الماركات العالمية، وقصتها مع كوكو شانيل، أو أن تأخذ الأعلى أجرًا، أكثر من «إيديث بياف»، كاتفاقها مع مدير مسرح الأوليمبيا.

فى كل الحكايات يلحظ القارئ خِفة ظِل أم كلثوم، وسرعة بديهتها، التى تدل على فطنة عالية، وتخلُّص من المواقف بطريقة ذكية، وانتقاء الردود. كما يلحظ اعتداد أم كلثوم بذاتها، وغضبها السريع أحيانا حين تشعر بأنها ليست الأهم والوحيدة، واتخاذها لبعض المواقف الحدية، فحين أهداها الشاعر أحمد رامى قصيدة فى مناسبة تكريم، قال له عبد الوهاب إنها قصيدته التى كتبها له من قبل؛ لذا غضبت أم كلثوم وقالت: «أنا متأسفة إنى عرفتك»، فغضب واستمرت القطيعة بينهما لشهور.

لم يقع الكاتب فى حالة الانبهار بالشخصية المثالية؛ بل قدَّمها فى المستوى الإنسانى، متداخل المفارقات، بما يتضمنه من جوانب قوة وضَعْف، وتقلُّب أحوالها فى المعاملات؛ وهو ما تسبَّب فى عدم احتفاظها بصديق لفترة طويلة. كانت تأخذها العِزة والكبرياء أحيانًا، ثم تعاوِد نقْد الذات، وتعيد تقييم مواقفها مع شخصيات تعاملت معها فى علاقات عملية وإنسانية عميقة، مثلما حدَث مع أحمد رامى، محمد الموجى، الشيخ زكريا أحمد، وغيرهم. يقول الراوى على لسان الموجى حين استدعته فى القضاء: «لكن الست - للأسف - لو أرادت شيئًا؛ فيجب أن يتحقق حالًا، وحالًا يعنى حالًا؛ وإلا اتهمتهم بالدلع والمنظَرة»

فمع أىّ شعور يراودها بأن هناك من لا يثمِّن أنه يعمل معها، وضِمن شروطها؛ كانت تستاء، وتبتعد، ثم يعاودها الحنين للعِشرة والتعاون السابق، حيث أدركت أن نجاحها يتم وفق منظومة متكاملة من عطاءات الشعراء والملحِّنين.

تدلل السيرة على قدرة أم كلثوم على المبادرة، والتحدى، وخلْق مكانة خاصة لنفسها؛ حزنت حين رفَض الشيوخ رغبتها فى تسجيل القرآن الكريم بصوتها، لشعورها بشموخه لا عورته، يقول الراوى على لسانها: «لو تركوها تتحدث؛ لقالت لهم إن الله يحبها، ويحب صوتها، ويحب حبها له». امتلكت أم كلثوم حدْس اختيار مَن يعمل معها، وتجلَّى ذكاؤها حتى فى تقسيمها لجمهورها من السميعة؛ تقول: «فى الأول كنت باحِس بالرهبة وأنا واقفة قدَّامهم. جسمى يرتعش، ولا يمكن أهدى إلا لمَّا أغنِّى واتسلطن، واقطع مشوار فى الأغنية، لكن الخوف منهم - لمَّا كبرت شوية - زال. بالعكس، بقيت أنا اللى باحِس انِّى الأستاذة، وهُمَّ التلاميذ، وأحيانًا باتعمِّد أسكت أو أطلع من طبقة لطبقة؛ علشان أشوف ردود فِعلهم»، حيث راق لأم كلثوم أن يدور الجميع فى فلَكها، الذى تخلِّقه وتتحكم فيه.

ويبدو الكاتب فى هذه السيرة كأنه يقف بحياء خلْف المفردات، يلتقط ما وراء المَشاهد بحساسية مرهفة، كموسيقى منسابة، يصِف إعجاب فاطمة والدة أم كلثوم لأذان الفجر بصوت زوجها، فيقول: «يخترق السحب، وينفذ من أقطار السماوات حتى يمتزج بغبار الملائكة الأبيض». وينثر الكاتب - بالجُمل والفقرات – روحًا حلوة وذكية، خفيفة الظِّل، حساسية تشير لمعنًى بعيدٍ مشاكس، لا يخضع، فيحاول تلمُّسه بالإشارات الشفيفة. يتحدث عن اللقاء الأول لأحمد رامى بأم كلثوم يقول: «وسمع غناءها حتى مسَّت قلبه، استولت على وجدانه. ظن أن الارتباط بفتاة ريفية مثلها سهل، لكنها بدأت تقشِّر جِلدها، وتزيل عن جسدها بقايا الطين، وتغيِّر لكْنة (طماى الزهايرة) وتطلِق العنان لصوتها، ناشرة تعويذاتها فى كل مكان».

ويتضمن الحكى بعض سمات البيئة الريفية فى المرحلة الأولى من حياتها، وبقاء ظلال ثقافته على رؤيتها للحياة، مهما انفتحت لها آفاق المدن، وعواصم العالم.

تميل اللغة التى تأتى على لسان أم كلثوم أو المنولوجات التى تسرى بداخلها إلى طزاجة وفطرية اللهجة العامية الساخرة، يصِف الكاتب شعورَ أم كلثوم للحضور، الذين سيستمعون لها فى بيت أحمد شوقى يقول: «.. وتبُظ ملامحهم بالألق والنعمة. وقد منحوها الإحساس بأنها صاحبة المكان لا أحمد شوقى»، كما ينسج الكاتب لغة أم كلثوم قويةً، واضحةَ الرؤية، محددة الأهداف، تقول فى منولوج داخلى: «لا. أنا أريد أن أكون فتاة. شابة حرة فى اختيار شكْلها وملابسها وزينتها، دون وصاية من أحد، حتى لو كانوا خاصةَ خاصتِها». ينهى القارئ هذه السيرة وقد لمَس مقوماتٍ امرأة واثقةَ الخطو، أهَّلت كوكبًا على فن الغناء العربى، ولم تزل.
نقلا عن المصرى اليوم