بِقَلَمِ: أَيْمَن فَايِز
فَنَّانٌ تَشْكِيلِيّ وَكَاتِبُ إِيقُونَةٍ بِيْزَنْطِيَّةٍ
بِمُنَاسَبَةِ إِحْيَاءِ ذِكْرَى مَجْمَعِ نِيقِيَةَ الأَوَّل: سَبْعَةَ عَشَرَ قَرْنًا قَرْنًا مِنَ الثَّبَاتِ فِي الإِيمَانِ وَالْفَنِّ الْمُقَدَّسِ
في مثلِ هذا الزمان، منذ سبعةَ عشرَ قرنًا، اجتمعَ آباءُ الكنيسةِ من أقطارِ المسكونةِ في مدينةِ نِيقِيَة، لا لِيبتدعوا إيمانًا، بل ليشهدوا للوديعةِ الرسوليّة، تلك التي وُلدت في العلّيّة، وتوطّدت بدماءِ الشهداءِ، وتغلغلت في لحمِ الكنيسةِ وعِظامها.
لقد كان مَجْمَعُ نِيقِيَةَ الأوّل – أو «المَسْكُونِيُّ» كما سمّاه التقليدُ – أكثرَ من لقاءٍ عَقَدِيّ: لقد كان إعلانًا مدوّيًا بأنّ الابنَ مُساوٍ للآبِ في الجوهرِ، ὁμοούσιος τῷ Πατρί، لا أدنى منه، ولا مخلوقًا منه، ولا ظلًّا له. بهذا الإيمان غير القابلِ للاجتزاءِ أو التحويرِ، تحدّت الكنيسةُ هرطقةَ أريوس، وأثبتت أنّ نِيقِيَةَ هي سورُ الحقيقةِ الرسوليّةِ، الذي لا يُخرقُ ولا يتهدّم.
لكنّ اللاهوتَ لا يُكتَبُ بالحِبرِ وحده. بل يُرى في الأعينِ، يُتذوَّقُ في الصلاةِ، يُعاشُ في الفنّ، ويُتجسَّدُ قُدّام الناظرِين. إنّه نورٌ يُسطع، لا نظريةٌ تُلقَّن. فالإِيمَانُ الحقُّ لا يُحبَس في صِيَغٍ لفظيّة، بل يُفصح عن ذاتِه في الألوانِ، في الإِيقُونَاتِ، وفي الخطوطِ التي تتشكّلُ بِوَحْيِ الرُّوحِ وَبِصَمْتِ الذُّرَى.
الإيقونةُ، في اللاهوتِ الكنسيّ، ليست لوحةً تُرسم، بل إنجيلٌ صامتٌ يُكتَبُ بالنُّورِ. هي سرٌّ منظورٌ، وتَجَسُّدٌ مرئيٌّ للكلمةِ الإلهيّة. الكتابُ المقدّسُ والإيقونةُ وجهانِ لحقيقةٍ واحدة: الكلمةُ التي صارت صورة، والصورةُ التي تُعيدنا إلى الكلمة.
إنّها لغةُ الروحِ، سابقةً على اللّسان، خاطبةً القلبَ بلا مقدّمات. فيها يُروى سِرُّ التَّجَسُّدِ، ويُعلَنُ مجدُ الفِداء، وتغلبُ الأنوارُ على الظُّلمات. كلُّ ضربةِ فرشاةٍ على خشبِ الإيقونةِ ليست فعلًا فنّيًّا، بل صلاةً وصومًا وذبيحةً في حضرةِ مَنْ لا يُوصَف.
في عصرٍ تستبدّ فيهِ الصُّورُ وتَغيبُ الرؤية، تتجلّى دعوةُ الكنيسةِ لإعادةِ الإيقونةِ إلى مقامها الأصيل: شهادةً لاهوتيّةً ناطقةً، لا زينةً معلّقةً.
الإيقونةُ تتكلّم بصمتها، وتتحرّك بثباتها، وتملكُ بجمالها. من قُبَّةِ الكنيسةِ، حيثُ يتجلّى وجهُ البَانْتُوكْرَاتُور (Παντοκράτωρ)، ينبعثُ صَوتُ الكلمةِ الأزليّة: ذاكَ الذي يمسكُ السِّفرَ، ويباركُ العالَمَ بسُلطانٍ لا يُقاوَم. المَعمارُ الكنسيُّ حين يُصبح صلاةً، تتحوّل الكنيسةُ إلى إيقونةٍ كبرى، ومذبحُها إلى مركزِ العالَم، وقُبَّتُها إلى سَماءٍ ثانية.
لم يكن مجمعُ نِيقِيَةَ حدثًا لاهوتيًّا فقط، بل لحظةَ انتقالٍ فنيٍّ روحيٍّ من رمزيّةِ السراديبِ إلى جرأةِ الإعلان. ارتفعَ الصليبُ على الأسوار، والتفّت الهالةُ الذهبيّةُ حول رأسِ المسيح، وغدا الجمالُ لغةَ الحقّ، لا ترفَ الزينة.
فَهِمَ قُسْطَنْطِينُ الكَبِيرُ أنّ الجمالَ هو لغةُ الإمبراطوريّةِ الجديدة، لغةُ الوحدةِ في المسيح. استخدمت الكنيسةُ الفُسيفساءَ لا لتزيينِ الجدران، بل لإعلانِ المَلَكُوت. رُسمَ المسيحُ في القِبابِ لا كرمزٍ، بل كملكٍ حاضرٍ، إلهٍ صار جسدًا.
وفي رموزِ ألفا وأوميغا (Α وΩ)، نقرأ اختزالًا لسرّ الزمنِ في شخصِ المسيح: «أَنَا هُوَ ٱلْأَلِفُ وَٱلْيَاءُ... ٱلْأَوَّلُ وَٱلْآخِرُ» (رؤيا ٢٢: ١٣). ليست هذه الحروفُ تزيينًا، بل لاهوتًا مرئيًّا، يَشهدُ للكائنِ الأزليّ في عالمٍ يذوي.
نحن اليوم، لا نستعيدُ ذكرى مجمعٍ فحسب، بل نجددُ نَفَسًا إيمانيًّا وفنّيًّا، يرى في الجمالِ طريقًا إلى الحقيقة. فالإيقونةُ ليست خاتمة، بل فاتحة؛ ليست أثرًا، بل شاهدًا حيًّا لحضورِ الله.
توصيةٌ معاصرةٌ: من أجل نيقيةٍ اليوم
لـ"نُعيدَ نيقية"، لا بدّ من استعادةِ الكنيسةِ كجسدٍ يؤمنُ بالإجماع الروحيّ، لا بالتشظّي الفردانيّ أو انقسامِ التيّارات. فالإيمانُ النيقاويُّ لم يكن بيانًا عقائديًّا فقط، بل إعلانَ وَحدةٍ في الروحِ والحقيقة.
العودة إلى "البدء": الإيمانُ المُتجسِّدُ قبل التنظير
يا رُعاةَ الكنيسةِ، أنتم حملةُ التقليدِ وحرّاسُ المجدِ الرسوليّ. لا تُمسكوا فقط بنصوص الإيمان، بل أظهِروه، عِيشوه، اجعلوه ملموسًا.
أرشدوا المؤمنين إلى الجمالِ كطريقٍ إلى الحقّ، وساعدوا الفنّانينَ على الإصغاءِ لا لموضاتٍ عابرة، بل لأنفاسِ الروح.
الفنّ المقدّس: تجديدٌ لا تجميل
وأنتم، يا كُتّابَ الإيقوناتِ، لستم مجرّد رسّامين، بل كهنةُ اللون، وخُدّامُ السرّ.
اكتبوا لا ترسموا، اشهدوا لا تُزخرفوا، اجعلوا ألوانَكم صلاةً، وظلالَكم نورًا، وخشبَكم جسدًا حيًّا للكلمةِ التي سكنت بيننا.
أعيدوا للإيقونة نبويّتَها، طقسيّتَها، وجلالَها اللاهوتيّ. دعوها تُضيءُ لا الجدرانَ فحسب، بل القلوبَ والعقول، فتغدو الكنيسةُ عتبةَ أُورشليمَ العليا، ويصير الفنُّ نَفَسًا روحيًّا يُنقِّي البصيرة.