د. ماجد عزت إسرائيل
من مصر أيضًا، انطلقت الرهبنة إلى المسكونة. كان الأنبا أنطونيوس نجمًا يضيء ظلمة البرية، يعيش بالخبز والماء، ويصلي حتى يذوب الجبل. ثم جاء باخوميوس ليجعل من الوحدة حياة شركة. وهكذا صار الرهبان المصريون معلمين للعالم كله من الشرق إلى الغرب، اقتفى الجميع أثر أولئك النساك الذين جعلوا من مصر منبعًا للقداسة.فاللغة القبطية، التي بقيت إلى اليوم لغة الصلاة والتسبيح، هي روح شعب.. هي صدى المسلات، ونغم الكرازة، ولسان الإنجيل حين ترجم أول مرة إلى لسان المصريين. كتب بها الآباء صلواتهم، ودونوا قوانينهم، وبها تقام الليتورجيا المقدسة إلى يومنا هذا، شاهدًا على استمرارية شعب لم يمت.ورغم الغزاة، والاحتلال، والاضطهاد، والمآسي، بقيت الكنيسة القبطية واقفة. حرقت كنائسها، وذبح كهنتها، وسجن باباواتها، لكن صليبها بقي عاليًا. كما قال القديس البابا كيرلس السادس ذات يوم: "الكنيسة القبطية لا تموت، لأنها قائمة على دم الشهداء".

  ونحن نحتفل بمرور 17 قرنًا على مجمع نيقية، نعيد اكتشاف جذورنا. لسنا أقلية، ولسنا طائفة. نحن مصر، نحن شعبها القديم، ولسانها الباقي، وإيمانها العابر للدهور. نعيش ونموت على رجاء القيامة، كما علمنا القديس مرقس، ونصلي من أجل العالم كما فعل أثناسيوس، ونسلك البرية كما سار أنطونيوس.أما اليوم، ما زال صدى صوت قداسة البابا تواضروس الثاني يرن في أذني، وهو يجول بين الشعوب، يصنع محبة أينما حل، ينثر بذور السلام، قائلاً بثبات وإيمان: "نحن لسنا أقلية، نحن أبناء هذا الوطن، ونحن كنيسة حية". كلماته أمام شعوب العالم تعلن من قلب يحمل مصر في أعماقه، وكنت، كلما سمعت صوته ونظرت إلى عينيه، أرى أثناسيوس الجديد، بقوة الإيمان، بجرأة الحق، وبوداعة الراعي الذي لا يعرف التراجع عن حب كنيسته وشعبه.

 يا مصر، يا أرض المجد، يا أم الكنائس ويا أم العائلة المقدسة، ها نحن نحتفل اليوم بمرور سبعة عشر قرنًا على مجمع نيقية، لا لنفتخر فقط بتاريخنا، بل لنشهد على أمانتنا، ولنقول للعالم: إن كنيسة الإسكندرية لا تزال حية، تنبض بالإيمان، وتحمل النور الذي بدأه مرقس وأثبته أثناسيوس وسار فيه آلاف الشهداء. «مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ..»." (إش 19: 25).… وما زلنا نحن هذا الشعب المبارك.