بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
نعم لقد لعب الجوار بين مصر والأراضي المقدسة بصفة عامه وأورشليم بصفه خاصة دورا رئيسيا في تدعيم العلاقات بينهما على مر العصور المختلفة وساعد على ذلك عدم وجود عقبات جغرافيه كالأنهار الواسعة أو العميقة، أو الجبال الشاهقة الوعرة التي يصعب اختراقها، ومن ثم كانت هناك إنتقالات فردية أو جماعية بين سكان هذين البلدين شاهدتها العصور المختلفة وسواء قبل الميلاد أو بعده، ومما يؤكد ذلك ما ذكره سفر أعمال الرسل الإصحاح الثاني في أنه كان في أورشليم في يوم الخمسين -أي في العام الثالث والثلاثين بعد الميلاد- مصريون آمنوا واعتمدوا في ذلك اليوم ويبدو أن هؤلاء المصريون كانوا يشكلون جالية كبيرة في أورشليم بدليل أنه كان لهم مجمع ( الاسكندرنيين و القيرونيين ) خاص بهم كما أشار إلى ذلك سفر أعمال الرسل في الإصحاح السادس .
لما كانت حدود مصر الغربية تضم سيرين أو برقة (القيروان) وهي إحدى المدن الخمس الغربية (بنتابوليس) وذلك منذ عهد بطليموس الأول (321ق.م) وظلت هكذا زهاء قرنيين ونصف، فقد شهدت هذه المدينة انتقال أعداد كبيرة من اليهود نقلهم إليها هذا الملك، ولما خُربت هذه المدينة على اثر غارة بدو الصحراء عليها أدى إلى عودة يهودها إلى أورشليم، وكان من هؤلاء العائدين أسرة القديس مرقس، وربما كان هذا السبب في اختيار مارمرقس الإسكندرية لتكون مركزا رئيسيا لكرازته. وكانت هناك أسر أخرى بخلاف أسرة مار مرقس نزحت من سيرين إلى أورشليم يذكر منها أسرة سمعان القيرواني التي خصها القديس مرقس في إنجيله دون غيره من الإنجيليين يبعض الإيضاحات عنها مما يؤكد انه هذه الأسرة كانت على صلة بأسره القديس مرقس بحكم الانتماء إلى وطن واحد، كذلك وجد من أبناء سيرين في الأراضي المقدسة لوكيوس بحكم الانتماء إلى وطن واحد، كذلك وجد من أبناء سيرين في الأراضي المقدسة لوكيوس القيرواني الذي ذكره سفر الأعمال أنه كان من المعلمين في إنطاكيا، وسمعان القيرواني وغيرهم. وقد تكونت من هؤلاء وأمثالهم النواة الأولى لطائفة المصريين المسيحيين في الأراضي المقدسة، ولم يلبث أن انضم إليهم مصريون آخرون كانوا يترددون على أورشليم، ثم آثروا الإقامة فيها بعد ذلك .
كما أن مصر بصفه عامه والإسكندرية بصفه خاصة احتضنت أكبر جالية يهودية في العالم في ذلك الوقت بل وأهم يهود الشتات بلا نزاع، ويرجع لهم الفضل في ترجمة العهد القديم من العبرية إلى اليونانية والتي عرفت باسم الترجمة السبعينية وذلك لخدمة الأجيال الجديدة منهم الذين نسوا لغتهم العبرية القديمة ولم يعرفوا إلا اللغة العالمية الجديدة وهي اللغة اليونانية، وبسبب أعدادهم الكبيرة التي وصلت إلى مليون نسمه بحسب ما ذكره العالم اليهودي فيلو الإسكندري الجنس. وكان لهم حى يهودي بأكمله في الإسكندرية يتكون من قسمين من الأقسام الخمسة التي تكونت منهم المدينة، ومن هؤلاء اليهود من ساهم في نشر المسيحية، ولعل أعظم من ظهر من أبناء مصر في عهد الرسل الفيلسوف أبلوس الذي تعمد على أيدي أكيلا وبرسكالا، وقام وبشر بالإنجيل وكانت له قدرته الفائقة على المحاجاة لذا (كان حارًا بالروح وناجحًا، الذي وصفه سفر الرسل الإصحاح الثامن عشر بأنه كان رجلاً فصيحًا مقتدرًا خبيرًا في طرق الرب) ويعزو الكثيرون إليه كتابه سفر العبرانيين إلا أن ذك غير معروف كما يظن أن القديس استفانوس هو أيضا ربيب مدرسة الإسكندرية القديمة .
الطريق الذي سارت عليه العائلة المقدسة كانت بداية ظهور الطرق المقدسة عند المسيحيين بعد قدوم ومجئ العائلة المقدسة. السيدة العذراء والطفل يسوع ويوسف النجار من بيت لحم عبر سيناء إلى مصر والعودة مرة اخرى من نفس الطريق تقريبا إلى الناصرة .
المسيحيون يعتبرون طرق المسالك والدروب التى سـلكتها العائلة المقدسة من مناسك الدين يقتضي على القادر ان يسلكها. لذلك أصبح هذا الطريق بعد ذلك مقصداً لسير الحجاج المسيحيين والرهبان والمتمسكين بالدين.
من أقوى الدلائل على وجود المسيحية فى مصر منذ القرون الأولى للميلاد وقبل الاعتراف بها رسمياً من قبل الإمبراطور قسطنطين فى القرن الرابع الميلادى هى النصوص البردية التى تعد دليلاً قوياً على انتشار المسيحية فى مصر فى أوائل القرن الثانى الميلادى وذلك على الرغم من ندرتها لأن المسيحيين فى تلك الفترة المبكرة كانوا يمارسون عبادتهم سراً خوفاً من اضطهادات الأباطرة الرومان .
أن معظم المؤرخين قد أكدوا على أن المسيحية ظهرت فى مصر عن طريق القديس مرقس المبشر وأنه من المحتمل أن يكون قد أتى إلى مصر مع القديس بطرس الذى جاء ليبشر يهود الشتات وتركه مرقس واتجه إلى الإسكندرية ليكرز فيها بالمسيحية.
القديس مرقس
القديس مرقس أبن لعائلة يهودية من سبط لاوي، عاشت في القيروان إحدى المدن الخمس الغربية بليبيا. إذ هجمت بعض القبائل المتبربرة على أملاكهم تركوا القيروان وذهبوا إلى فلسطين، اسم والده أرسطوبولس، ووالدته مريم، سيدة تقيّة حيث تمتع مع والدته بالسيد المسيح، فقد كانت أمه مريم من النساء اللواتي لها اعتبارها بين المسيحيّين الأولين في أورشليم حيث خدمن السيد من أموالهن. فتحت بيتها ليأكل الفصح مع تلاميذه في العُليّة، وهناك غسل أقدام التلاميذ، وسلمهم سرّ الإفخارستيا، فصارت أول كنيسة مسيحيّة في العالم دشنها السيد بنفسه بحلوله فيها وممارسته سرّ الإفخارستيا. وفي نفس العُلية حلّ الروح القدس على التلاميذ (أع 2: 1-4)، وفيها كانوا يجتمعون.
وحمل مار مرقس اسمين (أع 12: 12، 25، 15: 37): يوحنا وهو اسم عبري يعني "يهوه حنان"، ومرقس اسم روماني يعني "مطرقة".، وقد اتجه هو وعائلته إلى فلسطين واستقروا بها حتى آمن مرقس برسالة السيد المسيح على يد بطرس الرسول، وقد أصبح أحد الإنجيليين الأربعة وأنه تم اختياره من قبل المسيح ضمن السبعين رسولاً لإرسالهم ليكرزوا فى جميع أنحاء العالم بالديانة الجديدة، وقد شهد بذلك العلامة أوريجينوس والقديس أبيفانيوس. وقد كان اسمه اليهودى يوحنا واسمه اليونانى مرقس. كان القديس مرقس يمت بصلة قرابة لبرنابا الرسول بكونه ابن أخته (كو 4: 10)، أو ابن عمه، كما كان والده ابن عم زوجة القديس بطرس الرسول أو ابن عمتها. تعلم اليونانيّة واللاتينيّة والعبريّة وأتقنها. وكان القديس مرقس حاضرًا مع السيد في عرس قانا الجليل، وهو الشاب الذي كان حاملاً الجرة عندما التقى به التلميذان ليُعدا الفصح للسيد (مر 14: 13-14؛ لو 22: 11). وهو أيضًا الشاب الذي ترك إزاره وهرب عاريًا عند القبض على السيد (مر 14: 52).
أن معظم المصادر قد أجمعت على أن القديس مرقس هو أول من كرز بالمسيحية فى الإسكندرية فى منتصف القرن الأول الميلادى، وإن أقدم حديث عن دخول المسيحية إلى مصر هو عن دخول القديس مرقس إلى الإسكندرية، ويقول يوسابيوس "ويقولون أن مرقس هو أول من أرسل إلى مصر وأنه نادى بالإنجيل الذى كتبه وأسس الكنائس فى الإسكندرية أولا"..
والثابت أن القديس مرقس وصل إلى الإسكندرية عام 55م . إلا أن البعض ذكر أنه دخل الإسكندرية عام 43م ، بينما ذهب آخرون إلى أنه عام 58م، وعلى أية حال فإنه لا يوجد تاريخ محدد ومؤكد لزيارة القديس مرقس إلى الإسكندرية وقد توفى عام 68م فى عهد الإمبراطور نيرون (54- 68م) إذ انه قد انتشرت الشائعات فى ذلك العام بين الأوساط الوثنية فى الإسكندرية أن المسيحيين يهددون بهدم تماثيل الآلهة الوثنية الأمر الذى جعل نيران الانتقام تملأ قلوب الوثنيين، وقد كان هذا اليوم يوافق يوم عيد سيرابيس عند الوثنيين السكندريين فقاموا بالتجمع فى المعبد للاحتفال بالعيد ثم اندفعوا بعد ذلك فى مسيرات غاضبة داخل مدينة بوكاليا ضد المسيحيين وقاموا بالقبض على القديس مرقس وطوقوا عنقه وأخذوا يطوفون به شوارع المدينة طوال اليوم ويجرونه فوق الصخور حتى تمزق جسده وانفصل رأسه عن جسده ثم أعادوا الكرة فى اليوم التالي إلى أن أسلم روحه للرب، ثم بعد ذلك قام المسيحيون بدفنه تحت مذبح الكنيسة.
لقد قام القديس مرقس بالعديد من الأعمال التى خدمت العقيدة المسيحية خلال فترة كرازته بالإسكندرية وخارجها، ومنها:
1 - كتابة أقدم إنجيل عرفته البشرية، وقد استعان كل من القديس لوقا، والقديس متى بهذا الإنجيل، ومن المحتمل أن يكون القديس يوحنا رجع إليه، ذلك الإنجيل الذى ساعد على انتشار المسيحية فى كافة أرجاء مصر، وقد كتب هذا الإنجيل بناء على رغبة العديد من المسيحيين فى روما، وهناك ما يؤكد أن القديس مرقس أتى إلى الإسكندرية ومعه إنجيله الذى كتبه باليونانية وأنه من المحتمل أن يكون قد تُرجم هذا الإنجيل إلى اللغة القبطية ليسهل انتشاره بين جميع فئات المواطنين المسيحيين.
2 - إنشاء المدرسة اللاهوتية بالأسكندرية وكانت تسمى مدرسة (الكاتشيس) والتى تعنى تعلم قواعد الإيمان بالسؤال والجواب وأسس أول مفاهيم الدين الجديد، مما أدى إلى زيادة الإقبال عليه فى القرون الثلاثة الأولى للميلاد.
3 - بدأ الرسول خدمته مع معلمنا بطرس الرسول في أورشليم واليهوديّة. ثم انطلق مع الرسولين بولس وبرنابا في الرحلة التبشيريّة الأولى، وكرز معهما في أنطاكية، لكنه على ما يظن أُصيب بمرض في برجة بمفيليّة فاضطر أن يعود إلى أورشليم. إذ بدأ الرسول بولس رحلته التبشيريّة الثانية أصر برنابا الرسول أن يأخذ مرقس، أما بولس الرسول فرفض، حتى فارق أحدهما الآخر، فانطلق بولس ومعه سيلا، أما برنابا فأخذ مرقس وكرزا في قبرص (أع 13: 4-5)، وقد ذهب إلى قبرص مرة ثانية بعد مجمع أورشليم (أع 15: 39). إذ سافر إلى مصر وأسس كنيسة الإسكندرية بعد أن ذهب أولاً إلى موطن ميلاده "المدن الخمس" بليبيا، ومن هناك انطلق إلى الواحات ثم صعيد مصر ودخل الإسكندرية عام 61 م من بابها الشرقي.
وقد قام بأعمال تبشيرية كبيرة خلال فترة وجوده فى روما وقد كان ملازماً لبطرس طوال تلك الفترة، ثم تركها بعد استشهاد بولس وبطرس عام 64م، متجهاً بعد ذلك إلى اكويليا ثم القيروان التى قضى بها عامان ثم عاد مرة ثانية إلى الإسكندرية حيث لقى حتفه هناك على أيدى الوثنيين.
إنيانوس الإيمان المسيحي كأول مصري بالإسكندرية يقبل المسيحيّة. فقد تهرأ حذاء مار مرقس، وإذ ذهب به إلى الإسكافي إنيانوس ليصلحه دخل المخراز في يده فصرخ: "يا الله الواحد"، فشفاه مار مرقس باسم السيد المسيح وبدأ يحدثه عن الإله الواحد، فآمن هو وأهل بيته. وإذ انتشر الإيمان سريعًا بالإسكندرية رسم إنيانوس أسقفًا ومعه ثلاثة كهنة وسبعة شمامسة. هاج الشعب الوثني فاضطر القديس مرقس أن يترك الإسكندرية ليذهب إلى برقة (بليبيا) ومنها إلى روما، حيث التقى بالقديسين بطرس وبولس وبقي معهما حتى استشهادهما عام 64 م.
عاد إلى الإسكندرية عام 65 م ليجد الإيمان المسيحي قد ازدهر، فقرر أن يزور المدن الخمس، وعاد ثانية إلى الإسكندرية ليستشهد هناك في منطقة بوكاليا.
تعتقد لبنان أن القديس كرز بها، هذا وقد كرز أيضًا بكولوسي (كو 4: 10)، وقد اتخذته البندقيّة شفيعًا لها، واكويلاً من أعمال البندقيّة.
نختم حديثنا عن كرازته بكلمات الرسول بولس وهو يواجه لحظات الاستشهاد: "خذ مرقس واحضره معك لأنه نافع لي للخدمة" (2 تي 4: 11).
4 - ألف قداساً للصلاة يعتبر أصل القداديس المستخدمة حتى الآن.
من خلال ما سبق يعتبر القديس مرقس هو أول قديسى الإسكندرية وأول شهدائها وهو المنبع الذى انبثق منه القديسين والشهداء المصريين.
القديس مار مرقس والأسد
يُرمز للقديس مار مرقس بالأسد، لذلك نجد أهل البندقيّة وهم يستشفعون به جعلوا الأسد رمزًا لهم، وأقاموا أسدًا مجنحًا في ساحة مار مرقس بمدينتهم. ويعلل البعض هذا الرمز للأمور الآتية:
أولاً: قيل أن القديس مرقس اجتذب والده أرسطوبولس للإيمان المسيحي خلال سيرهما معًا في الطريق إلى الأردن حيث فاجأهما أسد ولبوة، فطلب الأب من ابنه أن يهرب بينما يتقدم هو فينشغل به الوحشان، لكن الابن طمأن الأب وصلى إلى السيد المسيح فانشق الوحشان وماتا، فآمن الأب بالسيد المسيح.
ثانيًا: بدأ القديس مرقس إنجيله بقوله: "صوت صارخ في البرية"، وكأنه صوت أسد يدوي في البريّة كملك الحيوانات يهيئ الطريق لمجيء الملك الحقيقي ربنا يسوع المسيح. هذا وإذ جاء الإنجيل يُعلن سلطان السيد المسيح لذلك لاق أن يُرمز له بالأسد، إذ قيل عن السيد أنه "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5).
ثالثًا: يرى القديس أمبروسيوس أن مار مرقس بدأ إنجيله بإعلان سلطان لاهوت السيد المسيح الخادم "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1)، لذلك بحق يرمز له بالأسد.
قد تعاملت الإمبراطورية الرومانية بكل التسامح تجاه جميع الأديان القديمة، ولكن هذا التسامح كان مرهوناً بشرط ألا تمثل هذه الأديان خطراً إجتماعياً أو سياسياً، وقد ظهر هذا الخطر بظهور المسيحية؛ فرغم أن العقيدة المسيحية أساساً دعوة دينية مجردة بعيدة تماماً عن السياسية؛ إلا أنها بدعوتها إلى نبذ الآلهة القديمة والعبادات القائمة داخل الإمبراطورية صارت تُشكل عداءاً مباشراً تجاه الإمبراطورية، فدعوة المسيحية إلى التوحيد كانت تجابه بذلك عبادة الإمبراطور أى تسلب الإمبراطور صفته المقدسة التى أسبغها على نفسه، وبذلك اُعتبرت المسيحية حركة مضادة للنظام الإمبراطورى المتوارث.
انتشرت المسيحية فى النصف الثانى من القرن الأول الميلادى ودخلت مصر فى نفس الوقت تقريباً، وقد كان هناك موقفان من تلك الديانة الجديدة:
الموقف الأول: على مستوى الدولة، فهناك أباطرة اضطهدوا المسيحية واعتبروها أداة لتدمير أمن الإمبراطورية وأباطرة آخرين جمعت سياستهم بين النقيضين.
أما الموقف الثانى: فهو المتمثل في الموقف الشعبى من الديانة الذى اتخذ في البداية موقف معادٍ، فسنجد الموقفين يلتقيان فى البداية، ولكن بانتشار المسيحية السريع بين فئات الشعب أصبح الموقف الشعبى فى مواجهة موقف الدولة لحماية المسيحية.
سرعة انتشار المسيحية بين طبقات المجتمع وعلى مستوى الإمبراطورية قد أثار الشكوك فى نفوس الأباطرة الرومان، الذين اعتقدوا أن إنقاذ الإمبراطورية لن يتحقق إلا عن طريق إتباع الطقوس الوثنية الرومانية، وقد رأوا فى المسيحية خطراً يهدد كيانهم، فعملوا على طمس معالم المسيحية واستئصالها والقضاء على أتباعها قبل أن تتأصل جذورها فى الأرض، ويصف المؤرخ لاكتانتيوس -الذى عايش أحداث الإضطهاد- أباطرة روما بأنهم قد جعلوا إيقاع الأذى بالكنيسة وشعبها مبلغ همهم وغاية سعيهم.
غدت المسيحية وانتشارها خروجاً على الإمبراطور والإمبراطورية، ومن هنا بدأت المذابح للمسيحيين وخاصة فى مصر التى بشر فيها القديس مرقس بالمسيحية فى منتصف القرن الأول والتى كانت من أوائل الأقطار التى اعتنقت الدين المسيحى، فقد نظرت روما فى البداية إلى العقيدة المسيحية على أنها طائفة يهودية أخذت في الانشقاق إلى أحزاب فلم يكن قد اتضح ماهية تلك الديانة الجديدة.
أول صدام بين الإمبراطورية الرومانية والمسيحية كان فى عهد الإمبراطور نيرون (54- 68م) ويؤرخ تاكيتوس عام 64م ببداية الإضطهاد وما أسفرت عنه سياسة التبشير التى اتبعها الدعاة الأوائل للمسيحية من نتائج شكلت خطراً على كيان الديانات الرومانية ليس فقط فى روما ولكن فى كل أنحاء الإمبراطورية ولذلك كان نيرون أول إمبراطور فى إضطهاد المسيحيين واتخذ موقفاً حاسماً وشديد اللهجة من هذه الرسالة التبشيرية بأن أقام مذبحة لتلاميذ المسيح ومنهم القديس بطرس والقديس بولس، وقد كان المسيحيون فى عهد نيرون هدفاً للسخرية، وقد استطاع التمييز بين المسيحيين واليهود فلم يختلط عليه الأمر كبقية الأباطرة، وقد يرجع ذلك إلى أنه كان على علاقة وطيدة ببعض اليهود، وفى عهده شب حريق كبير بمدينة روما ودمر جزء هائل من المدينة، وقد حامت الشكوك حول الإمبراطور، ولإبعاد التهمة عن نفسه قام بإلصاقها بالمسيحيين ولعل من أقنعه بذلك هم اليهود فقام الإمبراطور بعمل مذبحة كبيرة فى روما لعدد هائل من المسيحيين والتاريخ يشهد على مدى بشاعة هذه المذبحة.
امتد تأثير هذه الحادثة إلى مدينة الإسكندرية التى شهدت بعد أربع سنوات فى 68م حادثة بشعة بقتل القديس مرقس مبشر المسيحية فى مصر، وهو الحادث الذى حدد بداية العنف والاضطهاد فى مصر.