بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر 
أول مقياس هو الصفات الروحية، هل الشخص في طبعه طيبة أو محبّة أو اتضاع أو هدوء نفسي يسود كُل تصرفاته، تجلس إليه فتستريح إليه ولا تشبع منه، فتشعر أنه حقاً من أولاد الله..
 
أنك تعرف الشخص من كلامه، الكلام هو ثمر لحالة القلب من الداخل، قال الرّب: من الثمر تُعرف الشجرة، فإنه من فضلة القلب يتكلّم الفم، الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات، والإنسان الشرّير من الكنز الشرّير يُخرج الشرور (مت33:12-35)..
 
يبقى الشخص مستوراً وهو صامت لا يُعرف شخصيته، فإذا ما تكلّم، تنكشف شخصيته فتعرف مقدار علمه أو جهله، ونوعية عقله، وطريقة تفكيره، ومحصول معلوماته، ومقدار ذكائه أو غبائه..
 
قال الحكيم: إذا سكت الأحمق يُحسب حكيماً، ومن ضم شفتيه فهيماً، (أم28:17؛ نش11:4)، ولكن إذا تكلّم تظهر حقيقته، ويُحكم عليه كما قال: بكلامك تتبرّر وبكلامك تُدان (مت37:12).
 
هناك مَن يتكلّم فتتدفق الحكمة من فمه، فإذا بسامعيه يُردّدون ما قيل لعذراء النشيد: شفتاك يا عروس تقطران شهداً..
 
من نوعية كلام الإنسان تُعرف شخصيته ليس فقط علمه بل أخلاقه سواء دل كلامه على قسوة أم طيبة، على حرص أم تسيب، فتقول: إن فلاناً ما لفظ إطلاقاً بكلمة نابية ولا بكلمة جارحة للغير ولا بكلمة تشهير أو تحقير أو كذب بل كُل لفظة من كلماته موزونة بميزان دقيق..
 
لُغتك تُظهرك (مت73:26)، تظهر ما في عقلك من عمق أو ضحالة، إذ يوجد لشخص يتكلّم كثيراً ولا يقول شيئاً، تفتش في كلامه عن كلمة نافعة فلا تجد شيئاً، بينما غيره إذا تكلّم تجد في حديثه عمقاً وحكمة، وتلتمس منه باستمرار كلمة منفعة، مثل الشيوخ الحكماء..
 
تعرف شخصية الإنسان عن طريق ملامحه، فمشاعره وأفكاره ونياته تظهر في ملامحه في نظرات عينيه وحركة شفتيه، وفي انبساط ملامحه أو انقباضها، فالطيب تظر الطيبة في ملامحه..
 
العفيف تدل ملامحه على العفة، وكذلك القاسي والشهواني، ويوجد إنسان بشوش يرتاح الناس في النظر إلى وجهه، وتشيع بشاشته روح الرضا فيمَن ينظر إليه، وآخر كشري مقطب الجبين، إذا نظرت إليه تتوقع شراً، لذلك فالمصور يطلب ممَن يصورهم أن يبتسموا لتظهر صورهم جميلة، لكن مثل تلك كالوردة الصناعية تختلف في نوعها عن البشاشة التي بغير تكلف التي تدل على السلام القلبي في أعماق النفس..
 
حقاً مَن سقى أحد هُؤلاء الصّغار كاس ماءٍ باردٍ، فالحقّ أقُول لكُم إنه لا يُضيع أجره، راجع (مت42:10)، أحسّست، وشعرت أن كثيرين قلُوبهُم مُلتهبة بنيران الحرمان من الحب والعاطفة، ينتظرُون من أولاد الله كهنةً وشعباً، كأس ماء بارد يُطفيء النيران الداخلية..
 
ينتظرُون اهتماماً ربما في ابتسامة لطيفة، أو في كلمة رقيقة، أو مكالمة تليفُون، أو سُؤال عنهُم وعن أحوالهُم بطريقة أو أخرى، على أن تخرج بمحّبة من القلب، فالعالم في عطش إلى كأس ماء بارد ونحنُ نبخل أن نُقدمه، كثيراً ما اشتعلت في داخلي نيران الشُوق إلى كلمة الحُب، حيثُ ينبُوع الدم والماء الذي تفجر عند الصليب.. 
 
لم تجرح مشاعري بكلمة عتاب، بل غمرتني بفيض حبك، لأحب الكُل من خلالك، راجع (يو16:3؛ 34:19؛ 1يو16:4)..
فهناك أعمال حسنة لا يمكن كتمانها يراها الناس دون أن يكون قصد فاعلها أن يراه الناس، وأعمال أخرى يكون الهدف منها أن يراه الناس فيمجدوه أو يمتدحوه فينال أجره على الأرض، كذلك هناك فرق بين أن يكون القصد هو تمجيد الآب السماوي أو أن يكون القصد هو أن يمجد الإنسان من الناس، أولاد الله نور للعالم، والنور لا يمكن أن يُخفى كما لا تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يُخفى سراج على منارة (مت15:5)، فالناس لابد أنهم سيرون النور، وهذا يختلف عمن يفعلون الخير لكي يظهروا للناس، هؤلاء هم الذين استوفوا أجرهم هنا، راجع (مت16:6)
 
إذن عليك أن تعمل الخير حُباً في الخير، وحُباً لمَن تعمل معه الخير، دون قصد منك أن يراك الناس وأن تمدح منهم، بل تكون نتيجة عملك هو تمجيد الآب السماوي، وليس شخصك أنت، فليس لنا يارّب ليس لنا، لكن لاسمك القدوس أعط مجداً (مز1:115)
 
وهناك أمثلة كثيرة للأعمال التي يراها الناس تلقائياً، فمثلاً الوجه البشوش السمح المُفرح لمَن يراه، مثلما قيل عن الأنبا أنطونيوس، مَن من الناس يكون مُر النفس ويرى وجه الأنبا أنطونيوس إلا ويمتليء بالسلام، وكما قال له أحد تلاميذه: يكفيني النظر إلى وجهك يا أبي..
 
حقاً هناك وجوه وديعة هادئة بشوشة تنظر إليها فتحبها وتحب الله بسببها، وتأخذ منها درساً روحياً لك في الحياة، ما أجمل ما قيل عن إستفانوس حينما خطفوه وأتوا به أمام المجمع ليحكموه، فشخص إليه جميع الجالسين في المجمع ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك (أع15:6)..
 
ليس فقط الوجه البشوش، إنما أيضاً الكلام المنير والحكمة، كُل كلمة منه لها تأثيرها في النفس، صوته مُؤثر ينطق دائماً بالمعرفة ولا يُخطيء أبداً في حديثه، أنه نور يُشرق على الآخرين في كُل ما يقوله يسمع الناس ما يخرج من شفتيه وما يصدر من عقله فيمجدون الله..
 
هذا هو أسلوبه على الدوام في حديثه، وهذه هي طبيعة عقليته، طبيعة سلوكه يرى فيها الناس تطبيقاً عملياً لوصايا الله، وإذ يرون أعماله الحسنة يمجدون أباهم الذي في السموات، مثاليته ليست مُصطنعة، وليست لجذب الإعجاب، إنما طبيعة تصدر عنه تلقائياً..
 
إنسان آخر يتصف بالصدق، والأمانة في الحديث، لا يمكن أن يكذب مهما كانت الدوافع، بل لا يستطيع أن يكذب ولا يبالغ في الحديث، بل يتكلّم بكُل دقة ولا يعرف أن يلف أو يدور في حديثه، وقد درب نفسه على عدم الوقوع في أي خطأ من أخطاء اللسان حتى أصبح طبعاً فيه، وأصبحت دقته موضع أعجاب، وثقة كُل من يتحدث إليه، وبها يمجدون الله بل أنهم يتعلمون منه هذه الدقة في الحديث، وهذا الصدق..
 
فالناس يقرأون ويسمعون عن الوصايا وعن حياة الفضيلة، لكنهم يفرحون كثيراً حينما يرون نموذجاً في حياة غيرهم..
 
مثال آخر الشجاعة التي يتصف بها البعض بحيثُ تصبح هذه الشجاعة طبعاً ثابتاً في حياة الشخص وفي تصرفاته كُلها، مثل شجاعة مار جرجس حينما مزق منشور الإمبراطور ديقليدانوس الذي يمنع المسيحيين من ممارسات حريتهم الدينية بتهديدات قاسية، وهذه الشجاعة جرت عليه الكثير من التعذيب وشجاعة دانيال حينما حكم الملك داريوس بأن مَن يسجد لإله غير ألهتهم الوثنية يُلقى في جُب الأسود، فصعد دانيال إلى عليته وفتح نوافذه وصلّى وسجد لإله، وتمجد الله الذي نجاه (دا25:6-27)..
 
مثال آخر أبطال الإيمان، أولئك الذين تمسكوا بالإيمان ودافعوا عنه بكُل قوة وشجاعة واحتملوا في سبيل ذلك النفي والسجن أو العزل مثال ذلك البابا القديس أثناسيوس الرسولي الذي عزل ونفى أربع مرات وقيل له العالم كله ضدك يا أثناسيوس فأجاب: وأنا ضد العالم..
 
لقد رأى الناس صلابته وإيمانه واحتماله فمجدوا الآب السماوي، وحتى إن كانوا قد امتدحوا بطولة أثناسيوس، لكن لم يكن هذا هدفه أو قصده بل كان هدفه حفظ الإيمان السليم من الضياع..
 
مثال آخر رآه الناس فمجدوا الله وهو حياة الرهبنة الأولى، وكُل ما تميزت به من حياة النسك والوحدة والصلاة الدائمة، فإن كُل من عاشوا تلك الحياة لم يضعوا مجد الناس هدفاً لهم، بل على العكس هربوا من الناس، وما كانوا يتحدثون عن أنفُسهُم بل أن البعض منهم تظاهر بعدم المعرفة، ومنهم من عاش عشرات السنوات لا يرى فيها وجه إنسان، ومع ذلك فالله جعل سيرتهم تنتشر، وتصبح مسكاً لهذا العالم وتؤول إلى مجد الله، وليس إلى مجد أولئك النساك في حياتهم، وهذه السيرة الجميلة جذبت الآلاف لاقتفاء أثرها فتمجد الله وأصبحت حياتهم نماذج في ترك العالم الباطل..
 
من الأمثلة الأخرى لهؤلاء الذين كانوا نوراً للعالم، ورأى الناس أعمالهم الحسنة، فمجدوا الله .. نذكر معلمي البيعة..
 
أولئك الذين بعظاتهم وكتاباتهم أناروا الطريق الروحي أمام الكُل ليسلكوا فيه، وكانت كلماتهم وتأملاتهم العميقة غذاء للنفوس، كما كانت تعاليمهم ثباتاً للناس في الإيمان، وتفسيراً لآيات الكتاب العسرة في فهمها، كما حاربوا أيضاً الهرطقات، ووضعوا الفهم للإيمان السليم..
 
في كُل ما قاموا به من خدمات للكنيسة، وللعقيدة لم يكن هدفهم مطلقاً مديح الناس، بل كان الإيمان هو هدفهم وقد احتملوا في سبيله إضطهادات، وشدائد كثيرة من أصحاب البدع والهرطقة، ولكن دفاعهم عن الإيمان رآه الناس، ومجدوا أباهم الذي في السموات..
 
من الأمثلة الأخرى، أولئك الذين وهبهم الله المعرفة مثل يُوسُف الصدّيق، الذي استطاع أن يفسر لفرعون أحلامه، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجُلاً فيه روح الله، وجعله الثاني في المملكة (تك41)، لم يكن يُوسُف يقصد مجد نفسه بل مجد الله وإنقاذ الشعب من المجاعة فيما بعد، وهكذا بدأ يُوسُف تفسيره للحلمين بقوله: قد أخبر الله فرعون بما هو صانع، وأما عن تكرار الحُلم على فرعون مرتين، فإن الأمر مقرر من قبل الله، والله مُسرع ليصنعه، أكان يُوسُف يستطيع أن يخفي معرفته هرباً من مديح الناس؟ 
 
كلا، فإن المجاعة كانت ستهلك البلد..
مثال آخر للذين رأى الناس أعمالهم الحسنة فمجدوا الآب السماوي ... نذكر القديسين الشهداء والمعترفين..
 
أولئك الذين جاهروا بإيمانهم ووقفوا بقوة أمام الأباطرة أو الولاة والحكام وذاقوا مرارة السجن، وألواناً من التعذيب والآلام بصبر عجيب أذهل الكثيرين، ودفعهم إلى قبول الإيمان، وهكذا ساد المثل: دماء الشهداء بذار الإيمان، وبهذا يمجد الله، لقد رأى الناس جهاداتهم ومجدوها ولكن هذا التمجيد لم يكن أبداً هدفهم، بل مجد الله ونشر ملكوته..
 
من أمثلة الآخرين الذين اشتهروا بالنشاط وبالحكمة والتدبير، منهم الخدام الذين يجولون شرقاً وغرباً في خدمة الكلمة وفي افتقاد العائلات، وتراهم في نشاطهم كلهيب من نار فتمجد الله بسببهم، ومن هؤلاء أيضاً أباء الاعتراف الذين يتميزون بالحكمة في الإرشاد وحل المشاكل وقيادة أبنائهم إلى التوبة، ولا يقصد أحد من هؤلاء جميعاً مجد الناس أو مديحهم، إنما يقصد إراحة كُل مَن يقصده، إن الحكمة لا يستطيع أحد أن يخفيها، بل هي بركة لمَن تعمل من أجله يراها الناس فيعجبون بها..
 
من أمثلة الذين كانوا نشطاء في الخدمة حبيب جرجس، هذا الذي أسس مدارس الأحد، ووسع نطاق خدمتها، وطبع لها الصور والدروس، وألف لها الترانيم، ويعتبر المُؤسس الحقيقي للكلية الإكليريكية، فاشترى لها الأرض والمبنى وعين لها المدرسين، وكان هو المدرس الأول لها، وأخرج المئات من الكهنة والوعاظ، لقد رأى الناس أعماله الحسنة فمجدوا الآب السماوي، ولكن حبيب جرجس لم يكن هدفه مديح الناس..
 
من الثمار التي تعرف بها شخصية غيرك معاملاته، الذين لم تتعامل معهم بعد، شخصياتهم غير معروفة لك، فإذا ما تعاملت معهم تنكشف لك طبيعتهم، ومن ثمارهم تعرفهم، فهناك مَن تستريح إلى التعامل معه إذ هو شخص واضح لا يظهر غير ما يبطن بل هو صريح ومريح، باستمرار يسهل الأمور ويساهم في حل مشاكل غيره، بينما شخص آخر يكون في حد ذاته مشكلة يصعب حلها وتخشى التعامل معه، وإن اضطررت أن تعامله يكون ذلك منك حرصاً وتخوفاً، وإتخاذ الحيطة اللازمة..
 
لهذا كانت فترة الخطوبة لازمة قبل الزواج لكي يستطيع كُل طرف عن طريق التعامل مع الطرف الآخر، أن يتعرف على طبيعته وطباعه، ويرى هل يستريح إلى اسلوبه في الحياة أو لا يستريح؟!
 
تعرف شخصية الإنسان من ثمر نشاطه وخدمته في عمله، في تعامله تجده كتلة نشاط ومن حركة وانتاج لا يهدأ، كُل عمل تمتد إليه يده يترك فيه بصماته، وإن خدم يكون شعلة ملتهبة..
 
تعرف الناس من خلال الأخذ والعطاء، فمن ثمار الأخذ والعطاء تتعرف على طباع الناس ونفياتهم، هناك مَنيُريد باستمرار أن يأخذ وقد يكون مسرفاً في أخذه، محباً للنصيب الأكبر، بينما آخر يضع أمامه قول الرّب: مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأخذ..