د. خالد منتصر
ما زلت أتذكر المناقشة الساخنة بين الصحفي الكبير الراحل صلاح عيسى وبين نائب الإخوان أحمد أبو بركه، حول المادة الثانية من الدستور، ورفض الإخوان لكلمة مبادئ الشريعة، وإصرارهم على تغييرها لكلمة أحكام، وقد كانت ردود الأستاذ صلاح عيسى قوية وحاسمة ومنطقية ووطنية، وآن الأوان لتوثيقها وبعثها من جديد، لإنقاذنا من هذا اللغط وجو الجدل المسموم المنتشر في مجتمعنا، والذي ينذر بين الحين والآخر بفتنة طائفية، نخشى أن تأكل الأخضر واليابس، اقترح عيسى اجراء تعديل حول هذه المادة ليصبح النص مقاصد الشريعة هي المصدر، وقال إنها بصيغتها الحالية تعطي المبرر الدستوري للإخوان على حد وصفه لتحويل مصر إلى دولة دينية، واستدل على ذلك بالأحكام القضائية التي أكدت على حق الاخوان المسلمين في استخدام شعار الإسلام هو الحل، والتي استندت إلى هذه المادة من الدستور، واعتبر أن تلك الصيغة تسببت في حدوث توتر طائفي لافتاً لمشروع قانون الردة الذي تم إعداده في السبعينات، وأتذكر رد أبو بركه الذي قال أن هدف الاخوان هو تحويل مصر إلى دولة برلمانية، ووصف صلاح عيسى كلام أبو بركه بأنه كلام فارغ مستنداً إلى حديث المرشد عن ضرورة دولة الخلافة الإسلامية، هذا السجال الليبرالي الإخواني مابين عيسى وأبو بركه، لا أستحضره اليوم لكي أملأ مساحة في جريدة، ولكن لكي أشحن طاقة تجديد وحداثة وحيوية في نقاشات دائرة الآن، أراها قد غرقت في بحر الجمود، وتحنطت تماثيل من ثلج، وأطمئن من سيفتحون هذا الملف، أن كلام صلاح عيسى ليس جديداً، حتى لا نتهم بأننا نهمل تراثنا ونهيل عليه التراب، فالتراث مثل أي شيء في الدنيا، فيه الصالح والطالح، فيه التراث المستنير، والتراث الظلامي، فمن يتحدث مهملاً كلام الإمام الشاطبي مثلاً، هو شخص يتعمد اغتيال التراث المستنير، فاجتهاد الإمام الشاطبي يُعدّ من أعظم صور الاجتهاد الأصولي المقاصدي في الفكر الإسلامي، وقد قدم في كتابه “الموافقات” نظرية متكاملة حول مقاصد الشريعة، جاعلًا منها أساسًا لفهم النصوص والاجتهاد، نواتها أن المقاصد قبل الظواهر، الشاطبي رأى أن النصوص لا تُفهم فقط من ظاهرها، بل لا بد من مراعاة مقاصد الشريعة مثل حفظ النفس، الدين، المال، العقل، النسل،
فقال "الاعتبار بالمقاصد لا بالمظاهر، والمقصد الشرعي أسبق من التعبير اللفظي”، وأيضاً أنه لا اجتهاد بمعزل عن المصلحة، رأى أن المصلحة المرسلة (أي التي لم يرد نص صريح بشأنها لكنها تحقق مقاصد الشرع) يمكن أن تكون أساسًا للاجتهاد،لكنه وضع ضوابط صارمة لتجنب العبث، كان رأيه أن الاجتهاد الجماعي أفضل من الفردي، وقال إن العقل الجماعي للأمة أكثر صوابًا، ورفض فكرة احتكار الاجتهاد من قِبل فرد، خاصة في المسائل العامة، ووصف المجتهد بأنه ليس مجرد حافظ للنصوص، بل يجب أن يكون، فقيهًا باللغة، خبيرًا بأصول الفقه، عارفًا بواقع الناس، ونظرة على أمثلة من اجتهاده سنجد أنه وضع خطة منهجية يمكن تطبيقها، فمثلاً أجاز تقييد المطلق وتخصيص العام إذا كانت هناك مصلحة معتبرة شرعًا، أفتى بأن تبدل الأعراف قد يوجب تغير الأحكام، مثل تغير أحكام التعاملات المالية، وتلك اقتباسات من كتابه “الموافقات لمن لم يطلع عليه:
“المجتهد الحقيقي هو الذي ينظر إلى المعاني لا الألفاظ، وإلى المقاصد لا الصور.”
“كل اجتهاد خرج عن مقصود الشارع فهو باطل، وإن وافق بعض النصوص في الظاهر.”
“العبرة في الأحكام بمعانيها لا بأشكالها، فكم من مصلحة فاتت بسبب التمسك بالظاهر.”
عبر المفكر الإيراني المعارض للملالي هناك، عن الإسلام المقاصدي أفضل تعبير، عندما قال إن القراءة المقاصدية تدور حول غايات الدين واغراضه، والتي لا تنحصر في ظرف اجتماعي خاص، ولا تستمد قيمتها او ديمومتها من حقبة تاريخية بعينها، وهذا لا يعني إغفال علاقة الوحي بالظرف الذي نزل فيه ومتطلباته. بل يعني على وجه الدقة، النظر الى هذا الظرف باعتباره ظرفاً، وليس قيداً على الرسالة ولا جزءاً من جوهرها، ولا غاية نهائية للخطاب الإلهي، التركيز على غايات الدين ومقاصده، يعني ربط تطبيقات القيم والتعاليم الدينية، بل والتدين في العموم، بروح الرسالة والاغراض التي أرادت تحقيقها في حياة اتباعها، ولا سيما تقوى الله في السر والعلن، أما الظواهر والشكليات ونظم العيش، فهي غير مستهدفة بذاتها، وليست موضوعا لاهتمام الدين، فهي تعبر في المقام الاول عن حاجات للناس في ظرف زمني او مكاني خاص، سواء كان هذا الظرف هو زمن الوحي او الأزمان التالية له، ولأنها كذلك فهي تتغير بين زمن وآخر، أو بين مكان وآخر، بحسب حاجات الناس وتحولات حياته، رسالة الله مثل الغيث، يهطل على الارض في حقبة محددة، زلالا صافيا. ثم يجري في ارجائها. فيحمل من كل بقعة يمر بها، شيئا من لونها ورائحتها وطعمها، ويدخل فيه شيء من أعرافها وتقاليدها. وحين يمر الزمن، تجد في كل مجتمع نسخة من الاسلام، تتوافق مع بقية النسخ في العموميات، وتتمايز في التفاصيل، ونفهم بالبديهة أن هذا التمايز ثمرة لاختلاف المجتمعات في الأفهام والحاجات والسلائق، ولا أجد ختاماً أجمل من اقتباسات من كتاب مقاصد المقاصد للمفكر المغربي أحمد الريسوني حيث قال :" الفقه بلا مقاصد فقه بلا روح ، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح ، إن لم نقل إنه ليس بفقيه ، والمتدين بلا مقاصد تدينه بلا روح ، والدعاة إلى الاسلام بلا مقاصد ، هم أصحاب دعوة بلا روح ".
نقلا عن الأهرام