حنان فكري
الوعي المجتمعي... ذلك الوعي الذي أصاب الخدر جزءًا منه، فصار ممزقًا بين الميل الطائفي والنزوع للتحرر، بين التنور والعودة إلى التصحر الوجداني. روحٌ ممزقة تعلن عن ذاتها في الأزمات، وتحتاج المداواة، كما شهدنا في الاعتداء الجنسي على طفل مدرسة دمنهور'> واقعة الاعتداء الجنسي على طفل مدرسة دمنهور.

هذه الواقعة، التي اتُّهم فيها رجل مسن مسيحي الديانة، جريمة جنائية مروعة تستوجب أشد العقوبات، لأن إنزال العقوبة بالجاني يردع المجرمين من نفس الفئة المضطربة، بغض النظر عن الملابسات وحساسية انتماءات الأطراف وهوياتهم. لكن من الذي يوقع العقوبة؟ المجتمع أم القانون؟.

فالقضية تظل قيد نظر مؤسسات العدالة حتى تغلق أبواب التقاضي بجميع درجاته، ومن أجرم فلينَل عقابه. لكن عقوبة المجتمع مثلما عبرت عن الغضب من الجاني أضرت بالضحية، لأن الطفل المنتهك مثلما يريد عدالة منصفة وإعلامًا نزيها.. يريد مجتمعا واعيا صادقا، يعترف بألمه دون استغلال، وغياب هذا الوعي يجعل الطفل مغتصبا مرتين: واحدة في الجسد، وأخرى في الوعي العام.

ما شهدناه من شحن وحشد عبر منصات التواصل الاجتماعي ينذر بكارثة: فقد تحوّل المجتمع إلى قضاة، واحتلت العدالة الافتراضية عرش العدالة الحقيقية. مواقع التواصل أصدرت أحكامًا، ونشرت أسماء الضحايا والجناة، غير عابئة بتداعيات ذلك على مستقبلهم وسمعة ذويهم، مما يهدد مستقبل العدالة في وقائع مماثلة. ويدفع اطراف الوقائع للتغطية عليها وعدم اللجوء للقانون، والسؤال: لماذا لا تتخذ الدولة إجراءات رادعة في هذا الصدد؟ لماذا تترك المتربصين وصائدي الفرص لتحويل طاقة الغضب الإنساني من الاعتداء على البراءة إلى طاقة غضب طائفي؟ لماذا تحولت الصفحات الالكترونية إلى منصات سب وقذف دون محاسبة؟ من مصلحة من تأجيج الكراهية والفتنة؟

المدارس المسيحية
كشفت واقعة الطفل ياسين هشاشة وعينا الجمعي حين يتصدع تحت ضغط الانتماء الطائفي، فالحادثة التي في أصلها القانوني والعلمي والاجتماعي، جريمة اعتداء جنسي ضد طفل بلا إرادة وبلا حماية سوى القانون – تحولت سريعًا إلى ساحة مكايدة طائفية. على الجانبين، جانب يستخدم الواقعة لتأليب المجتمع ضد المدارس المسيحية، والجانب الآخر يستخدم الانكار بغض النظر عن ضربه لأبسط مبادئ الإنسانية، بالرغم من أن الجميع غير مُلم بأبعاد وأسرار القضية، مهما اطلعنا على أوراق، لأن القضايا ذات الأبعاد الجنسية شديدة التعقيد. والنتيجة حتى بعد حكم المؤبد على المتهم الكل خاسر.

حتى صار تسعير الغضب ضد المدارس المسيحية مباحا على بعض الصفحات المعروفة بتشدد أصحابها دون رادع، مما أنشأ على المقابل لدى الطرف الآخر جبهة دفاع افتراضية، هذا التسعير يجب أن يتوقف لحماية الحقيقة من التلاعب، والعدالة من الابتزاز العاطفي أو الطائفي، فالدعوات الاستفزازية ضد مدارس المسيحية تعيد نكريس فكرة العقاب الجماعى، فماذا لو حدثت الواقعة في أحد النوادى.. هل نغلق كل الأندية؟ ماذا لو حدثت في معهد أزهرى هل نغلق كافة المعاهد الأزهرية؟ لذلك لابد من وضع الواقعة فى توصيفها الجنائى بعيدًا عن الانتماء الديني لأى طرف فهناك أثمة يريدون لهذا الوطن فتنة وانقسام، وعلينا ألا ندعهم يستدرجوننا في مستنقع المكايدة الطائفية.

أما الطفل الضحية الذي لم يكن يعلم أن لحظة المطالبة بحقه ستتحول إلى معركة، يجتذبها وكلاء الأديان، وأن وجعه سينزف مرتين: مرة تحت يد المعتدي، ومرة أخرى في فم من حول وجعه إلى شعار طائفي، أو رخصة للكراهية، استغلتها الحملات المسعورة للجان الإلكترونية. فقد تم تداول صورته مكشوف الوجه، وصورة والدته أيضا، دون أي حياء أو مراعاة لمستقبله وماذا يمكن أن يحدث له حينما يصبح مراهقًا؟ مع العلم أن مجتمعنا تحكمه أعراف عاشت عقودا تنهل من ثقافة الصحراء.

التحرش لا دين له
الأزمة تسبق الحكم في الواقعة وتتجاوزه، فقبل الجلسة الأولى للمحاكمة فجأة نصب البعض أنفسهم حراسًا على نوايا العدالة؟ فمن الذي قرر أن يُغلق أبواب العقل، ويستبدلها بصفارات التحريض، بينما طفل صغير فقد أمانه الجسدي والنفسي، وينتظر – وحده – عدالة لا تأبه بالطائفية، بل بالحق؟

إن أخطر ما في مثل هذه الوقائع ليس الجريمة وحدها، بل سرعة تحويلها إلى سلاح فتنة. نترك الألم الحقيقي، ونتقاتل على ما لم يقله القانون بعد. نغفل أن أي تسييس أو تطييف للانتهاك هو انتهاكٌ آخر يُرتكب في وضح النهار، اسمه «انكار العدالة».

نحن لا نحمي أطفالنا حين نحشد خلفهم شعارات الطائفية، بل نحميهم حين نبني مجتمعًا يعترف بحقهم في الجسد والأمان، دون اعتبار لدين المعتدي أو مذهب الضحية. نحميهم حين نكف عن الصمت، ونرفض التواطؤ، وندرك أن العدالة لا تُصاغ في قوالب مسبقة، بل تُبنى على تحقيقات نزيهة ومسارات قانونية يجب احترامها حتى نهايتها.

الخوف من الفتنة
الطفل هو ضحية مجتمع لا يزال يخجل من الاعتراف بانتهاك الطفولة، ويخاف من تسمية الجناة حين تتقاطع أسماؤهم مع هويات دينية أو اجتماعية حساسة. المطلوب ليس تأليب طائفة ضد أخرى، بل بناء إرادة جماعية تحمي الأطفال، وتُحرّم التبرير والإنكار، وتقف في وجه أي سلطة – دينية كانت أم اجتماعية – تغطي على الجناة بدعوى «الستر» أو «الخوف من الفتنة».

فالعدالة ليست فتنة.

والمساءلة ليست عداءً.

والأديان جميعها بريئة من الجريمة.

فدعونا نرفع راية الضحية، لا راية الطائفة.

ولنحمِ وجع الطفل، بدلًا من استغلاله كمبرر لغلق المدارس المسيحية، كما يحاول البعض.

حين يُغتصَب الطفل يقهره الصمت، وحين يصرخ تقهره الطائفية.إن أكثر ما يهدد تعافي الأطفال من حوادث الانتهاك هو إنكار المجتمع، أو تسييس الجريمة، أو إعادة إيذاء الطفل عبر تداول قصته بعيدًا عن مشاعره واحتياجاته. الطفل لا يفهم الطائفة، ولا تهمه الخلفيات العقائدية للجاني، لكنه يختزن الخوف، والخزي، والخذلان، خاصةً إذا شعر أن صرخته تحولت إلى مادة جدل أو مزايدة.

حين يُصاب المجتمع برهاب الطائفية، يُنكر تلقائيًا أن يكون «أحد أبنائه» جانيًا. فالاعتراف يهدد الصورة الجمعية. فينقل الجريمة من مستواها الفردي إلى صراع بين الأديان، لا بحثًا عن العدالة، بل دفاعًا عن الهوية.

لكن الحقيقة المُرّة التي يؤكدها علم النفس الجنسي الجنائي، أن الاعتداء الجنسي لا دين له، ولا عمر، ولا طائفة. هو انحراف في السلطة الجنسية، يرتبط بالرغبة في السيطرة لا الشهوة. والإحصاءات العالمية تؤكد أن أغلب المعتدين من داخل الدائرة الاجتماعية المألوفة للطفل، لا من الغرباء.

هذا الاستقطاب الطائفي حول الجريمة يُشتت تركيز الدولة والمجتمع عن المسار الطبيعي: مسار العدالة. والعدالة ليست ثأرًا من دين الجاني، ولا رد شرف لطائفة الضحية، بل استجابة دقيقة للحدث: تحقيق، فحص نفسي وبدني، مراجعة للقرائن، ثم محاكمة عادلة.

وفي هذا السياق، يبقى احترام مراحل التقاضي أمرًا جوهريًا. فلا يجوز اختزال الحكم الابتدائي وكأنه نهاية القصة، ولا تسخيره لإشعال الحساسيات الدينية. فباب الاستئناف مفتوح، والتحقيقات جارية، والنظام القضائي ملزم بالفصل دون تحيز.

وجع الطفولة
أخطر ما نفعله بأطفالنا هو أن نُعيد تعنيفهم عبر خطاب عام لا يراعي مشاعرهم، بل يستثمرها. هذا الاستثمار العاطفي في جروح الطفولة يصنع مجتمعًا مشوهًا، يردد الصراخ ولا يُنصت له، يبحث عن العدو في الطائفة بدلًا من أن يواجه العدو في ثقافة الإنكار.

علينا اليوم أن نحمي أطفالنا جميعًا عبر خطاب مسؤول، يعترف بأن التحرش جريمة أخلاقية، لا دينية، ويؤمن بأن الوقوف بجانب الضحية هو وقوف إلى جانب ضميرنا الجمعي، لا ضد طائفة أو ديانة.

التصعيد المجتمعي.. فوضى معنوية
حين يتحول الغضب المشروع إلى دعوات انتقامية، أو يُوظف الحزن في صراع طائفي، وتتم تغذية القضية بخطاب عاطفي منفلت، ينتج عنه التصعيد المجتمعي،. فإن هذا التصعيد يفجر احتقانات مدفونة، لا يُحقق العدالة بل يُعيقها، ويجعل من الطفل الضحية وقودًا لصراعات لا تخصه، ويمنح الجاني فرصة للتواري خلف غبار الفوضى.

لهذا، فإن ضبط الخطاب العام، والتمسك بمسار العدالة القضائية، دون تمييز أو تسييس، ليست مواقف عقلانية فقط، بل واجب أخلاقي لحماية نسيج المجتمع ومنع انقسامه على جراح أطفاله.
نقلا عن المصرى اليوم