د. سامح فوزى
شغلت قضية الطفل «ياسين» الرأى العام على نطاق واسع خلال الأيام الماضية، سواء فى الإعلام بشتى صوره، أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك قبل وبعد صدور حكم المحكمة بإدانة أحد الأشخاص بتهمة الاعتداء الجنسى على الطفل. بالطبع الجريمة بشعة، تغتال براءة طفل، وتسبب له تداعيات نفسية تلازمه لفترة طويلة.وقعت أحداث مشابهة لها فى السابق، وقد تتكرر للأسف فى المستقبل، ولا يملك المجتمع حيالها سوى توعية الأطفال وأسرهم، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأطفال، وإذا تعرض أحدهم إلى التحرش أو الاعتداء الجنسي، ينبغى أن يكون هناك عقاب قانونى رادع حيال مرتكب هذا الجُرم، وإذا كانت العقوبة المشددة تجاه الجناة قد تقلل من حدوث الجريمة، لكنها لن تقضى عليها، على غرار جرائم أخرى مستمرة فى الحدوث رغم عقوباتها المغلظة، ولذلك فإن الجهد الحقيقى ينبغى أن ينصب على توعية الأطفال بأهمية الحفاظ على أنفسهم، والتخلى عن ثقافة الخوف، والتحلى بالشجاعة فى مواجهة الجاني.

قضية الطفل «ياسين» رغم بشاعتها، حدث مثيل لها فى السابق، وقد تقع أحداث مشابهة لها فى المستقبل، ولكنها اكتسبت- دون غيرها- أبعادا أو وجوها متعددة، نظرا لأن الجانى مسيحي، والطفل مسلم، والمدرسة التى حدثت بها الواقعة تملكها هيئة مسيحية، يعمل بها مسيحيون ومسلمون، وبها أطفال مسيحيون ومسلمون. ورغم أن المدرسة نشأت من أجل تقديم خدمة تعليمية جيدة، وبناءالجسور بين المسلمين والمسيحيين، فقد آلت الأمور إلى حالة من الاحتقان نظرا لالتهاب الحادث، ومحاولات البعض «تطييف» و»تسييس« القضية.

الذين سعوا إلى «تطييف» القضية، أى إضفاء طابع طائفى عليها، انطلقوا من كون الطفل مسلمًا، والجانى مسيحيًا، وهى ممارسة متكررة فى التوترات الطائفية على مدى عقود، عندما يختلف طرفا قضية عادية، جنائية أو مالية أو شخصية، تتحول مباشرة إلى مواجهة طائفية خلاف الحقيقة. هناك أحداث كثيرة تلبست رداءً طائفيًا فى السابق، رغم كونها خلافات عادية تحدث بين المسلمين أنفسهم أو المسيحيين أنفسهم، ومبعث ذلك رغبة الطرفين أو أحدهما تجييش المجتمع المحلى فى مواجهة الطرف الآخر عن طريق إثارة النعرات الدينية. لعبة خطرة، تستخدمها أطراف عديدة، وعندما تهدأ الأمور نكتشف أن جوهر المشكلة علاقة عاطفية، أو خلافا تجاريًا، أو حتى جريمة جنائية محلها مؤسسات العدالة، وليس الحشد الطائفي.

وهناك من سعى إلى «تسييس» القضية، وهم بالأساس تيارات فى خصومة مع الدولة، وتريد أن تؤجج الفتن حولها، مثلما لا تكف عن نشر الشائعات، وتأليب الناس بادعاءات واهية، وتخريب السياسات العامة، وقد وجد هؤلاء ضالتهم فى أمرين لا ارتباط بينهما، أن المدرسة التى وقعت فصول الجريمة بها تملكها هيئة مسيحية، ونُسجت كثير من الراويات والادعاءات بهذا الخصوص وجدت انتشارا وجدلا على وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا تأملنا خطابات الساعين إلى تسييس القضية نجد أنهم يستهدفون الدولة فى المقام الأول، خلاف الطائفيين الذين يبحثون عن مكاسب ضيقة لهم على التعايش الايجابى بين المواطنين، وفى النهاية يجتمع الفريقان فى خندق واحد.

وبين الذين سعوا إلى تطييف القضيةأوتسييسها، هناك أصوات عاقلة، انحازت إلى مبادئ العدالة وحقوق الإنسان وحكم القانون والمنطق. الجريمة بشعة، وينبغى أن يكون هناك عقاب رادع لها، ولا مجال للتعاطف مع جانٍ أو ضحية من منطلقات دينية أو طائفية، بل من منظور إنسانى اخلاقي، ولا حصانة لأحد ارتكب جريمة، ولا علاقة لأى مؤسسة، دينية أو مدنية، بتصرفات وسلوكيات أشخاص تابعين لها، لأن الجريمة شخصية، والعقوبة شخصية، ومن الخطورة أيضا ممارسة التعميم، الذى يطول المدارس التى تملكها هيئات مسيحية، ويشهد لها الجميع بانضباطها ودورها التربوى والتعليمي، وتسعى الأسر المصرية، مسلمين ومسيحيين، إلى إلحاق ابنائهم بها، وكثير من النخبة المصرية فى شتى المجالات تخرجوا فى هذه المدارس، ولا يزالن على صلة بها. نفس المنطلق وجدناه فى السابق عندما حدثت مشكلة فى مدرسة خاصة، مال البعض إلى الهجوم والتشهير بكل المدارس الخاصة. فى كل الأحوال، فإن التعاطف مع أسرة الطفل «ياسين»، ومع كل أسرة تمر بظرف مشابه، واجب انسانى واخلاقي، ويمثل دعما مجتمعيا لازما، وسوف نظل دائما نتعلق بدولة القانون والمؤسسات، فإن من ارتكب جرمًا ينال عقابه، والقضاء يحوى عدة درجات للتقاضي، هكذا كفل المشرع للجانى والمجنى عليه الحق كاملا، قبل أن يصبح الحكم نهائيا وباتا، ولا مجال للتعليق على أحكام القضاء، لا مدحًا ولا ذمًا، وأيضا لا مجال للتجييش المجتمعى حيال قضية منظورة أمام القضاء.
نقلا عن الاهرام