القمّص يوحنا نصيف
ثانيًا: أمراض تتعلّق بضعف المحبّة والإحساس بالآخَرين:
    + عندما دعانا الربّ يسوع له المجد أن نتتلمَذ له ونتبعه، أوصانا أوّلاً أن ننكر ذواتنا، ثمّ أن نحمل صليبنا، أي نخضع له ونكون مربوطين معه بنفس النِير، وبالتالي نستطيع أن نتبعه!

    + إنّ هذا يُلزِمنا أن نسلك كما سلك ذاك بالمحبّة والبذل للجميع، كما يعلّمنا الإنجيل: "كونوا متمثّلين بالله كأولاد أحبّاء. واسلكوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً" (أف5: 1-2).

    + ما أخطر أن تتحوّل خدمة الإكليروس إلى وظيفة روتينيّة، فقيرة في المحبّة.. إنّ خدّام المسيح ينبغي أن يكونوا أيقونة حيّة للمحبّة، التي تتأنّى وترفق، وتحتمل وتصبر، ولا تطلب ما لنفسها، وإلاّ يصير عملهم كمثل النحاس الذي يطنّ والصنج الذي يَرِنّ بدون فائدة عمليّة (1كو13).

    + من أهمّ علامات المحبّة أن ينمو في قلب خدّام الكنيسة الإحساس بالآخَرين، والنظر بعين الرحمة للضعفاء والفقراء والمُستَعبَدين للخطيّة، ومدّ يد المساعدة لهم؛ سواء ببسط اليدين في الصلاة لأجلهم، أو ببسط اليدين لتقديم المعونة المادّيّة والنفسيّة والروحيّة لهم.

    + أتذكّر أحد الآباء الكهنة القُدامَى، ولم يكُن متميِّزًا في الوعظ ولكنّه كان مشهورًا بطيبته الشديدة، أنّه قال لي: أنّي لا أعرف أن أخدم الناس إلاّ بأنّي أحبّهم واهتمّ بهم! وكان بالفِعل يُعَبِّر عن ذلك بوسائل عديدة. وبالطبع عندما يرى الناس محبّة الإكليروس لهم، فسوف يتلامسون مع محبّة المسيح نفسها؛ وبهذا يتحقّق هدف الخدمة في الكنيسة، بأن يمتلئ الناس من محبّة الله.

    + محبّة الذّات هي مرض خطير يمكن أن يُصيب الإكليروس، وهي أصعب عائق يمنع تقديم المحبّة للمخدومين. لأنّ محبّة الذّات تخنق محبّة الله في القلب، وتنحرف بهدف الخادم بعيدًا عن تمجيد الله؛ إذ يبدأ الكاهن أو الأسقف في الاهتمام بتكريم الناس له، وتمييز الناس عن بعضهم بمقدار ما يقدّمونه من تبجيل وتقدير؛ ثمّ يمكن أن تتطوّر الأمور إلى طلب التمجيد والكرامة، ولوم الناس إذا لم يُقَدّموا ذلك، بحجّة ما يُسَمّونه "كرامة الكهنوت"، مع أنّ الكرامة الحقيقيّة هي أن نعيش كإكليروس مقدّسين لله نفسًا وجسدًا وروحًا، ولا نتعالَى على أحد!

    + المبدأ المسيحي الذي ينبغي أن يكون واضحًا لنا تمامًا أنّ جميع أعضاء جسد المسيح -بما فيهم الإكليروس- لهم كرامة واحدة، ويختلفون فقط في وظيفتهم داخل الجسد؛ والتي سوف يُعطُون عنها حسابًا أمّام الديّان العادل. فالجميع لهم كرامة أبناء الله وعضويّة جسد المسيح ويسكن فينا الروح القدس. أمّا بخصوص خدمة الإكليروس، فلعلّنا نتذكَّر ما علّمنا إيّاه الربّ يسوع المسيح -له المجد- عندما انحنى ليغسل أرجل تلاميذه، صانِعًا ما يفعله العبد مع أسياده، وطالبًا من تلاميذه أن يعملوا هكذا باستمرار مع الآخَرين (يو13)!

    + هكذا سلّمنا السيّد المسيح منهج الخدمة، بأن نكون مِثلَ عبيدٍ تحت أقدام أسيادنا الذين نخدمهم، الذين هم أبناء الملك، مهما كان مستواهم المادّي أو الاجتماعي أو الروحي!

    + لقد واجه الربّ يسوع انتقادات كثيرة من رجال الدين في عصره، بسبب أنّه كان يحبّ العشّارين والخطاة، ويدخل بيوتهم ويأكل معهم، ويقضى أيّامًا في الاهتمام بهم وتعليمهم عن محبّة الثالوث القدّوس لهم. وهو رغم كلّ الاحتجاجات الصارخة لم يُغَيِّر من طريقته؛ ولعل الأصحاح الخامس عشر من إنجيل القدّيس لوقا يقدّم لنا صورة جميلة لهذا الحبّ والاهتمام، عندما بدأ بهذه الكلمات الرائعة: "وكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ!" (لو15: 1-2). وحينئذٍ بدأ السيّد المسيح يحكي الأمثال الثلاثة المشهورة: الخروف الضال والدرهم المفقود والأب الحنون الذي ضلّ ابنه الصغير وتمرّد أيضًا عليه ابنه الكبير.. وهو يكشف بهذه الأمثال عن محبّة الابن ومحبّة الروح القدس ومحبّة الآب، على التوالي!

    + نحن كإكليروس مدعوّون دائمًا أن نتمثّل بالراعي الصالح، ربّنا يسوع المسيح، في محبّته وتواضعه وخدمته للجميع بدون تمييز؛ فنخدم الكلّ بابتسامة جميلة مُشَجِّعة، وبقلب لا يَهدِف إلاّ إلى تمجيد الله والكشف عن حبّه العظيم، وتوصيل أبناء المَلِك إلى ملكوت أبيهم!

   يتبقّى ثلاث مقالات كبيرة من هذه السلسلة، سيتمّ نشرهم تِباعًا، بنعمة المسيح.
(يُتَّبَع)
القمّص يوحنا نصيف