أكرم القصاص

 رحل البابا فرانسيس، أحد أهم باباوات الفاتيكان ورعاة التسامح وحوار الأديان ومواجهة الصراع، الرجل الذى حمل أسماء بابا المتعبين والفقراء والمهاجرين والضحايا فى كل مجال، ومنذ توليه شغل البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، العالم من خلال خطابه المختلف ودعوته للسلام والتواضع، ولم يكف عن سلوك كل طريق للحوار بين البشر والمذاهب المسيحية والأديان عموما.

 
 
جاء فرانسيس أو خورخى ماريو بيرجوليو من الأرجنتين فى أمريكا اللاتينية، ولد فى 17 ديسمبر 1936 فى بوينس آيرس لعائلة من أصول إيطالية، والتحق بالمدرسة اليسوعية، وتخرج فى الفلسفة ثم رسم كاهنا فى عام 1969، حتى عين كاردينالا فى عام 2001، وحمل اسم البابا فرنسيس خلفا للبابا بنديكتوس السادس عشر عام 2013، وحمل اسم فرانسيس تيمنا بالقديس فرنسيس الأسيزى رمز التواضع والاهتمام بالفقراء.
 
 
اختار البابا فرانسيس عدم العيش فى الشقة البابوية التقليدية، بل فى بيت القديسة مارتا تأكيدا للتواضع، وحافظ على مظهر وسلوك متواضع، يحمل حقيبته بيده رافضًا أن يحملها غيره، تنازل عن الكثير من مظاهر الأبهة لرئيس الفاتيكان، وبعد انتخابه ألغى الكثير من التشريعات المتعلقة بالبابوية والمخصصات والمظهرية، ويحرص على ارتداء ملابس متواضعة، وبعد انتخابه احتفظ بحذاء متواضع رافضًا ارتداء حذاء البابا الفاخر، وظهر وهو يغسل أقدام اللاجئين، ويهاجم اختلال العدالة فى العالم وغياب المساواة.
 
 
تواضع البابا فرانسيس أمر لافت، فالرجل ينتمى للأرجنتين، عرف عنه اهتمامه بالفقراء والمظلومين، بشكل حقيقى وملابسه القديمة وفيها أثر الخياطة للأكمام. يحرص على استخدام سيارة فيات أقل بهرجة ورفاهية من سيارات الحرس، وهى تفاصيل يمكن اكتشافها مباشرة من سلوك الرجل، وابتسامته البريئة، وسوابقه فى الاحتفاء باللاجئين والفقراء والأطفال والمساجين، ووجوده يمثل نقلة فى علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين، وأيضا بإزالة الخلافات بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، باعتبار أن هناك دورا لمنارات الفكر الدينى فى إغلاق مناطق الخلاف والكراهية من أجل إنقاذ العالم من مطامع تقود العالم إلى صراعات وصدامات يدفع ثمنها المظلومون والفقراء.
 
 
قام البابا بالعديد من الرحلات فى جميع أنحاء العالم سعيا إلى نشر رسالة السلام والعدالة والحوار بين الأديان، دعم البابا فرانسيس كل حوارات ورسائل السلام وتبنى خطابًا ضد الحروب والصراعات والتسلح والعنصرية والإرهاب بوصفها أساس نشر الجوع والبؤس فى العالم. شارك فى مؤتمر حوار الأديان فى الأزهر عام 2017 بكلمة مهمة حول السلام ومواجهة الصراعات والحروب فى العالم.
 
 
زيارة البابا فرانسيس لمصر مثلت قيمة روحية وثقافية كبرى، حيث شارك بالحضور والحديث فى مؤتمر الأزهر للسلام، الذى شاركت فيه وفود من الدول الإسلامية والديانات المسيحية واليهودية، بحثا عن أرضيات الحوار بين العقائد السماوية باعتبارها ذات أهداف واحدة، هى إسعاد البشر وانتشالهم من الصراع والكراهية.
 
 
ألقى الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب كلمة فى مؤتمر السلام، أشار فيها إلى مفارقة أن يحدث كل هذا الخراب، ويسقط الملايين من الجوع والحروب والمرض والتشرد، فى قرن يفترض أنه يرفع شعارات التحضر والرقى داعيا لإعادة الوعى برسالات السماء، يومها استمع البابا فرانسيس إلى كلمة الإمام الأكبر وألقى كلمة، والتقى كلاهما فى أهمية الحوار بديلًا للصدام، وانتزاع أسباب الكراهية، والتقى كلاهما عند تأكيد الحرية الدينية، والحوار بين الأديان، وأهمية انتزاع أسباب التطرف والكراهية والإرهاب.
 
 
وبالإضافة إلى لقاء البابا فرانسيس بشيخ الأزهر، فقد كانت هناك أهمية للقائه مع البابا تواضرس، حيث تبادلا الحديث حول التقارب بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، والحوار بين كنيسة مرقس فى مصر، وكنيسة بطرس فى الفاتيكان. فى فبراير 2019 وقع البابا فرانسيس مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، فى أبوظبى وثيقة «الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمى والعيش المشترك»  وفى عام 2021 زار العراق تحت شعار «أنتم جميعكم إخوة»، وقال: «يجب علينا أن ننمّى الوعى بأننا اليوم إمّا أن نخلص جميعًا أو لا يخلص أحد».
 
 
لم يتوقف البابا فرانسيس عن الدعوة لوقف الحرب فى غزة وإنفاذ الأطفال، وفى يونيو 2024 وجه رسالة لتجار الحروب فى غزة والعالم، التى يدفع ثمنها والأبرياء والمدنيون، كما قاد الكنيسة  لوقف ما أسماه «الحرب العالمية الثالثة الجزئية» قاصدا الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والوضع فى الشرق الأوسط، ووجه نداءات متكررة لوقف الحروب فى سوريا واليمن والسودان، وندد دائما بأن «الحرب هزيمة».
 
 
وقال البابا قبيل يومين فى رسالة بمناسبة عيد الفصح، قرأها أحد مساعديه  «أفكر فى شعب غزة، حيث يستمر الصراع الرهيب فى التسبب فى الموت والدمار»، واصفا الوضع الإنسانى فى غزة بأنه مأساوى ومؤسف، ودعا البابا فرنسيس المجتمع الدولى مرارا وتكرارا لتحمل مسؤولياته تجاه المدنيين فى غزة، مؤكدا أن الحرب لا تجلب سوى الدمار والبؤس، وأن السلام وحده هو الطريق الحقيقى للكرامة والعدالة.
 
 
برحيل البابا فرانسيس يخسر العالم واحدا من دعاة السلام والتسامح والمكافحين ضد الفقر والضعف والصراع.
نقلا عن اليوم السابع