القمص يوحنا نصيف
    يبدو لأوّل وهلة، أنّ هذه العبارة قاسية، وفيها الكثير من الغضب على شعب إسرائيل، وبالتحديد مدينة أورشليم التي كانت مركز العبادة.. فهل تَبَدّل الحبّ الإلهي إلى بُغضة؟ والصبر إلى انتقام؟ وأين طول أناة الله ومحبّته؟!

    الحقيقة أنّ السيّد المسيح كان يتكلّم بهذا الكلام وهو يبكي على أورشليم، مدينته المحبوبة (لو13: 35 - 19: 41)، التي تعب في رعاية شعبها لمئات السنوات.. لكنّهم عصوا عليه، ورفضوا أن يستظلّوا تحت ظلّ جناحيه.. أمّا هو فاحترم حرّيتهم.. ولكنّهم بِبُعدهم عن الله، صاروا مَطْمَعًا لعدوّ الخير، الذي لا يُضيِّع أيّ فرصة للتخريب والتدمير..!

    إنّ موقف أورشليم في أيّام السيِّد المسيح، وقبل تدميرها تمامًا عام 70م، يشابه موقفها في أيّام إرميا النبي، قبل سبي بابل.. فقد كانوا مصابين في ذلك الوقت بنفس الأمراض الروحيّة، من ظُلم وقساوة ورياء ونجاسات وكبرياء ومحبّة للعالم ومحبّة للمال والمظاهر.. وكان إرميا يَعظُهم ويبكّتهم ويحذّرهم كثيرًا من السبي القادم، ولكنّهم رفضوا كلامه ورذلوه وأهانوه وعذّبوه، وفي النهاية ذهبوا به رغمًا عنه خارج أورشليم إلى مصر، وهناك قتلوه.. وها هم يكرّرون نفس الأخطاء البشعة مع ابن الله الوحيد المتجسِّد لأجل خلاصهم، بل خلاص كلّ العالم..!

    العلامة أوريجينوس له مجموعة عظات تحوي تعليقات غنيّة جدًّا على سفر إرميا.. وفي حديثه عن مقدّمة السِفر، يناقش كيفيّة تعامُل الله مع شعبه عندما يُخطئ.. أحاول بنعمة المسيح في هذا المقال أن أقتطف لحضراتكم بعضً العبارات الجميلة من هذا الحديث:

   + الله سريع في تقديمه الخير، بطيء في العقاب لمستحقّيه. وبالرغم من أنّه قادرٌ على (معاقبة) الذين هم تحت الحكم بدون أن يتكلّم أو يُنذِر، إلاّ أنّه لا يفعل شيئًا من هذا؛ بل بالعكس، حتى عندما يَحكُم فإنّه يتكلّم (أولاً)، علي اعتبار أنّ الكلام هو وسيلة (تحذيريّة) لرفع العقوبة عن المحكوم عليه.

   + يُمكِنُنا تقديم أمثلة عديدة لحنان الله في الكتاب المقدس.. (فمثلاً) صار أهل نينوى خطاةً، وقد تمّ الحكم عليهم من قِبَل الله؛ بعد ثلاثة أيام كان يجب أن تنقلب مدينة نينوى (يون3: 4). لم يشأ الله توقيع حكمه عليها دون أن يَنطِق، ولكنه أعطاها فرصة للتوبة (حك12: 10)، ومجالاً للرجوع، وأرسل لها نبيًّا عبرانيًا، حتى.. بتوبتهم يتمتّعون بالرحمة الإلهيّة.

   + لقد حَكَم الله علي أورشليم بسبب خطاياها، وكان الحُكم هو تسليم أهلها إلي السبي. ومع ذلك فحين جاء وقت السبي، أرسل الله بحبّه ورحمته هذا النبيّ (إرميا).. قبل السبي، حتى يعطي الفرصة لِمَن يريدون لكي يُفكِّروا ويتُوبوا بسبب كلام النبيّ.. الله في طول أناته أعطى مُهلَةً للناس حتى عشيّة السبي، وهكذا يُمكننا القول أنّ السبي قد تمّ بعد أن نَصَحَ اللهُ الناسَ لكي يتوبوا.. وعندما بدأ السبي كان إرميا مازال يتنبّأ، وكان يتكلّم بهذا الكلام تقريبًا: ها أنتم قد أصبحتم مأسورين؛ لكن (حتّى) في هذا الحال توبوا، حتى إذا ما تُبتُم فإنّ آلام السبي لن تستمرّ طويلاً، ورحمة الله تأتي عليكم.

   + يوجد شيء مشابه بالنسبة لنا أيضًا؛ فإذا أخطأنا، فإنّنا نصبح نحن أيضًا مسبيّين.. أيّ شقاء عظيم أن يُخطِئ الإنسان فيُسَلَّم إلي الشيطان، الذي يسبي ويأسر النفوس التي تَخَلَّى عنها الله؟! ليس بدون سببٍ يَترك الله هؤلاء الخطاة؛ فإنّه يُرسِل المطر علي الكَرمَة (إش5: 1-7) ثم لا تعطيه هذه الكرمة سِوى شوكًا بدلاً من العنب، ماذا يَفعل بها الله إلاّ أن يأمُر السُّحُب بألاّ تُمطِر عليها؟ إذًا فنحن أيضًا مُهَدَّدون بالسبي بسبب خطايانا إن لم نتب..!

    هكذا نفهم من كلمات المُعَلّم أوريجينوس، أنّ محبّة الله لا تتغيّر ولا تنقُص أبدًا، وأنّه يترجّى خلاصنا بطول أناة، حتّى نعود إليه بالتوبة.. عندئذ يجمعنا تحت جناحيه، فنتمتّع بالأمان والفرح والسلام ودفء محبّته الأبويّة!
القمص يوحنا نصيف
جمعة ختّام الصوم 2025م