كمال زاخر: يشهد التاريخ للأنبا باخوميوس بأمانته وحزمه وحسمه في إدارة الحدث، ونجاحه في أن يُرسي بسفينة الكنيسة، والوطن أيضًا، في ميناء آمن
كمال زاخر
ما زلت أتذكر جملة قصيرة قرأتها قبل سنوات طويلة في مقدمة كتاب الفيزياء المدرسي، في المرحلة الثانوية، "الصدفة لا تأتي إلا لمن يستحقها" للعالم الفيزيائي جوزيف لاجرانج، وإن أدركت فيما بعد أن حياتنا لا تديرها الصدف، إنما هي منظومة تديرها العناية الإلهية، لمن يسلم القيادة لها، وهو ما تعارفنا على تسميته إيمانيًا "التدبير الإلهي".
عندما يذكر اسم الأنبا باخوميوس يُذكر له أنه قاد الكنيسة القبطية في موقفين غاية في الحساسية والدقة، استطاع فيهما أن ينزع فتيل انفجار كان يمكن أن يهدد سلام الكنيسة والوطن.
بواكير شبابه بين الصدفة والتدبير
في الحياة العملية، تجد هذه المقولة "الصدفة ـ التدبير" موطنًا في مسيرة المحاسب سمير خير سكر، الذي تخرج ضمن أول دفعة في كلية التجارة جامعة عين شمس علم 1956، استوعب مبكرًا محاور علم الإدارة؛ التخطيط، التنفيذ، اختيار الكوادر، المتابعة، التقييم والتقويم، وهى خبرات ظلت لصيقة بمسيرته، تحكم منهجه في كل المسئوليات التي أُسندت إليه. وانعكست على إدارته للأزمات في لحظات حرجة في حياة الكنيسة والوطن.
البابا تواضروس الثاني في وادع نيافة الأنبا باخوميوس- فيس بوك المتحدث باسم الكنيسة
ففي بواكير شبابه، وهو بعد طالبًا جامعيًا، يتعرف على الراهب مكاري السرياني، ذلك الشاب الذي اقتحم بجسارة حياة الرهبنة ليكون من أوائل الشباب الجامعي الذين طرقوا أبواب الأديرة طلبًا للرهبنة، الأمر الذي أسس لنهضة رهبانية، نقلتها من مناخات العصور الوسطى لتضعها على مشارف استنارة ووعى القرن العشرين.
والذي يدعوه للتكريس، التفرغ للخدمة الروحية، بعد أن عرف عنه خدمته المبكرة وهو بعد صبي صغير في "مدارس الأحد"، تلك المنظومة التي تتولى مهمة تعليم الأطفال والنشء المبادىء والمعارف والحياة المسيحية، وفى سياق خدمته يتعرف على شاب آخر، الأستاذ نظير جيد، الذي يلحق بصديقه الراهب مكاري السرياني، بعد سنوات قليلة، 1954، ليصير راهبًا باسم الراهب أنطونيوس السرياني، وتتوثق العلاقات بين الثلاثي، الشاب سمير خير، والراهبان مكاري وأنطونيوس السريانيين (نسبة إلى ديرهما دير السريان).
يذهب الشاب إلى الراهب أنطونيوس السرياني، ويذكره بنفسه ويلتمس نصائحه كونه صحفيًا أدار ورأس تحرير مجلة مدارس الأحد وهو لا يزال علمانيًا قبل رهبنته، لرغبته في إصدار مجلة لخريجي مدارس أحد الزقازيق، وتكوين أسرة جامعية تواصل خدمة الشباب الجامعي.
في سياق آخر يلتحق بالعمل في وزارة الخزانة (المالية فيما بعد) بدمياط، عقب تخرجه، ويتدرج وظيفيًا حتى يصير مديرًا للحسابات بوزارة الصحة ببنها، ويتنقل وظيفيًا من محافظة إلى أخرى، ليحط به الرحال في محافظة الجيزة، وفيها يُسند إليه الإشراف على بيت الشمامسة بالجيزة، والذي يخدم الطلبة الجامعيين المغتربين الملتحقين به، وفى هذه الأثناء يلتحق بالكلية الإكليريكية، القسم المسائي، ويتخرج فيها عام 1961، ويواصل إشباع نهمه للعلم فيلتحق بقسم الاجتماع بمعهد الدراسات القبطية، وترسم هذه المحطات رؤية الشاب وتصقلها، فيقرر الاستقالة من عمله الحكومي للتفرغ للخدمة الكنسية، وهنا تأتى لحظة فارقة في مسيرته، إذ ينصحه الدكتور كمال رمزي استينو وزير التموين، بالبقاء في وظيفته، ويستصدر له قرارًا حكوميًا هو الأول من نوعه، بإعارته من الدولة للكنيسة.
يرقد الأنبا باخوميوس، بشيبة صالحة، (الأحد 30 مارس 2025) عن عمر يناهز التسعين عامًا (1935 ـ 2025) ويظل رمزا للحكمة والهدوء، وقد ترك للكنيسة منهجًا في الإدارة المتوازنة بغير صخب وبغير اشتباك مع السياسة
محطة جديدة بتكليف البابا كيرلس السادس
هنا تبدأ محطة جديدة وفاعلة في حياته، إذ توفده الكنيسة شماسًا بكنيستنا القبطية بالكويت، بتكليف من البابا كيرلس السادس، وكانت أول كنيسة قبطية في الخارج لخدمة المغتربين الأقباط هناك، يعود من الكويت بعد نحو عام، ويتم دعوته للكهنوت لكنه يصر على بقائه مكرسًا متبتلاً، ويقرر أن يذهب إلى الدير طلبًا للرهبنة، ويرسم راهبًا يحمل اسم الراهب أنطونيوس السرياني، نفس الاسم الذي حمله قبلاً الأنبا شنودة، قبل رسامته أسقفاً للتعليم، 1962، وفى عام 1966 يتم رسامته كاهنًا، ويبدأ خدمته بمعهد إعداد الخدام الإفريقيين بكوتسيكا؛ التابع للمركز البابوي للكرازة لإعداد الخدام الإفريقيين. ومنه ينطلق للخدمة بالسودان وإثيوبيا.
تختاره الكنيسة ليمثلها في المحافل الكنسية الدولية، واختير عضوًا في مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، ومجلس كنائس كل إفريقيا.
ويختاره البابا شنودة الثالث بعد أقل من شهر من تجليسه بطريركًا ليكون باكورة رساماته الأسقفية، أسقفاً باسم الأنبا باخوميوس، على إيبارشية البحيرة (12 ديسمبر 1971)، ومعه يتم رسامة الراهب شنودة السريانى أسقفاً للغربية باسم الأنبا يوأنس.
وتعد إيبارشية البحيرة من أكبر الإيبارشيات في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ تضم محافظة البحيرة ومحافظة مرسى مطروح وجزء من مدينة الإسكندرية وجزء من محافظة المنوفية، بل وتمتد خارج مصر إلى الشمال الإفريقي بدءً من ليبيا والتي تسمى الخمس مدن الغربية، وتمتد إلى جزيرة مالطة بالبحر المتوسط.
يشهد التاريخ للأنبا باخوميوس بأمانته وحزمه وحسمه في إدارة الحدث، ونجاحه في أن يُرسي بسفينة الكنيسة، والوطن أيضًا، في ميناء آمن.
صان سلام الكنيسة والوطن
وعندما يذكر اسم الأنبا باخوميوس يُذكر له أنه قاد الكنيسة القبطية في موقفين غاية في الحساسية والدقة، استطاع فيهما أن ينزع فتيل انفجار كان يمكن أن يهدد سلام الكنيسة والوطن.
الأنبا باخوميوس كان ضمن اللجنة الخماسية للقيام بالمهام البابوية - الصورة من أرشيف الأهرام مواقع الكترونية
وفيهما تتأكد مقولة أن (الصدفة ـ التدبير) لا تأتى إلا لمن يستحقها، الأول حين تم تعيينه في اللجنة الخماسية التي تم تشكيلها ضمن قرارات السادات في ٥ سبتمبر ترتيبًا على قرار عزل البابا، حتى تكون حلقة اتصال بين الكنيسة والدولة. لم يكن فيها منذ البداية لكن تم تعيينه لاحقًا ليحل محل الأنبا صموئيل الذى استشهد فى حادث المنصة فى أكتوبر 1981، وصار الأنبا باخوميوس دينامو العمل فيها لخبراته وعلاقاته الطيبة مع الأباء الأساقفة ومع الدولة.
الانبا باخوميوس يعلن اسم البابا تواضروس الثاني لتولى المهام البابوية - مواقع الكترونية
والثانية حين اختير ليكون قائمقام البابا الراحل، بعد اعتذار الأنبا ميخائيل مطران أسيوط، وكانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي مرت بها مصر والكنيسة، إذ شهدت قيام ثورة يناير وما تلاها من أحداث جسيمة واضطرابات وقلاقل، ثم قفز الإخوان على السلطة وما حمله هذا من متاعب ومخاوف،
وعلى جانب آخر، شهدت الكنيسة صراعًا محتدمًا على خلافة البابا شنودة، وبرزت أسماء عديدة لكنه أدار الأزمة بحكمة وهدوء وحزم لتنتهي بانتخاب وتعيين الأنبا تواضروس، الذي يأتي ليناسب مناخات مرحلة غاية في الارتباك والمخاطر، وتحتاج لكثير من التبصر والهدوء والروية، بعد سنوات عاصفة ومضطربة.
عند رحيل قداسة البابا شنودة الثالث
وفى هذا السياق، أتذكر على المستوى الشخصي صدمتي في رحيل قداسة البابا شنودة الثالث، والذي شكل عاملاً فاعلاً ومؤثراً في مسارات الكنيسة والوطن، وشكل وجدان وذهن الأقباط بامتداد نصف قرن (1971 - 2012)، أسقفًا للتعليم وبطريركًا، وكان قراري الذهاب للكاتدرائية لتقديم واجب العزاء للكنيسة، بل وتلمس العزاء لي بشكل شخصي، في رجل كان له فضل في تشكيل بواكير اتجاهاتي وبناء وعيي الروحي والكنسي، ذهبت بالرغم من تحذيرات كثيرين، بسبب موقفي المعلن في مواجهة الدائرة المحيطة بقداسته والتي شكلت مراكز قوى، راحت تفرض سلطتها وسطوتها، بعد أن أقامت سياجًا حول قداسته، يمنع أصحاب الرأي من التواصل معه، وها هم يتصدرون مشهد العزاء. لكنني لم أستمع لنصائحهم.
ذهبت ومعى ابناي، وكان المشهد في قاعة العزاء مهيبًا، وارتفع الكل إلى مستوى الحدث الجلل، إذ التقيت في مدخل القاعة بالأنبا يوأنس سكرتير قداسة البابا آنذاك والذي طيب خاطري وأثنى على حضوري، وفى القاعة يتكرر الموقف من كثيرين من الآباء المطارنة، وكان أبرزهم الأنبا بيشوى، الذى شهدت فيه إنسانًا أنهكه الحزن على رحيل قداسة البابا، وأتذكر كلماته "إنها لحظة للوقوف معًا إكليروس وعلمانيين للعبور بالكنيسة إلى بر الأمان"، وكان من الطبيعي أن أذهب للأنبا باخوميوس الذي تم تحميله بإدارة اللحظة الصعبة، وبعدد كلمات العزاء، قال لي أنه ينتظرني بعد أن تنتهي مراسم العزاء، بمكتبه، المفتوح للكل دون شروط أو قيود.
ذهبت إليه ومعى من رفقاء التيار العلماني القبطي، الصديق مدحت بشاي والصديق اسحق حنا، وقدمنا له ملفًا موثقًا لرؤيتنا في إشكاليات الخدمة وتصورات تفكيكها، كان الرجل منصتاً ومحاورًا ملمًا بما طرحناه، وقدمنا له ملاحظاتنا وتخوفاتنا في شأن خلافة البابا المتنيح، بقدر ثقله والفراغ الذي خلفه برحيله، وطمأننا بأن الكنيسة تملك من الضوابط والحكمة ما يقودها للخروج من الأزمة بسلام، وأنه وإخوته الأساقفة يضعون الأمر بين يدي الله مشفوعًا بصلوات لا تنقطع ليدبر الأمر.
البابا يصلي قداس وتجنيز الأنبا باخوميوس بالبحيرة- فيس بوك المتحدث باسم الكنيسة
لم نكن الوحيدين الذين التقاهم وأنصت إليهم وحاورهم، لكنه التقى بالعديد من الأراخنة والمثقفين وأصحاب الرأي من شعب الكنيسة، في تلك المرحلة العصيبة، ويشهد التاريخ للأنبا باخوميوس بأمانته وحزمه وحسمه في إدارة الحدث، ونجاحه في أن يُرسي بسفينة الكنيسة، والوطن أيضًا، في ميناء آمن.
يرقد الأنبا باخوميوس، بشيبة صالحة، (الأحد 30 مارس 2025) عن عمر يناهز التسعين عامًا (1935 ـ 2025) ويظل رمزا للحكمة والهدوء، وقد ترك للكنيسة منهجًا في الإدارة المتوازنة بغير صخب وبغير اشتباك مع السياسة.
نقلا عن فكر تاني