عادل نعمان
.. ولا يمنعنا أحد من الفحص والتدقيق فى السير حتى لو كانت سير الأوائل والصحابة، فليس كل ما نقرأه حقيقة، فكما يحتمل الصواب فإن الخطأ وارد وقائم، فلا قداسة ولا عصمة لأحد، والسرد التاريخى منقول عن بشر يخطئون ويصيبون، تتنازعهم الأهواء والمصالح، الأهم أن هذه الروايات نقلت على المعنى وليس على اللفظ أو الحرف، فتناقلها الحكاءون والرواة على قدر ثقافتهم وعلمهم ونواياهم، فعاب منهم من عاب وأحسن منهم من أحسن، وبالغ منهم من جاور أو رحل عن إقصاء أو إكراه، وكما نشك فى سوء نوايا بنو العباس فيما رواه رواتهم وقصاصوهم عن بنى أمية، فلا نثق أيضا فيما تناقله بنو أمية عن تاريخهم قبل أو بعد الإسلام فلم يكن مثاليا كما سجله رواتهم وقصاصوهم أيضا.
الحكاية الخامسة «إن لله جنودا من عسل» والحسن بن على هو صاحب هذه الحكاية، ونطيل فيها ونتناولها بأكثر من غيرها ربما لأن فيها من الجوانب ما نحتاج إلى معرفته: فقد كان الحسن معترضا على أبيه على بن أبى طالب حين هم بترك المدينة متجها إلى العراق لمواجهة طلحة والزبير حتى لا يطول أمد الحرب وتتفشى الفتن ويعم البلاء، وكان يراه فى المدينة بجوار قبر النبى أفضل وأسلم، بل ونصحه أن يعتزل سعيه للخلافة أو يرحل إلى «ينبع» حيث أرضه وممتلكاته فيعيش فيها راضيا مرضيا، إلا أن عليا رفض كل نصائحه. وقد حزن الحسن على «عثمان» حزنا شديدا وكان يتسلل إلى بيته بالماء والطعام ويتسلق أسوار بيت الخليفة الأسير عثمان، ويمده بالماء والطعام، فقد كان «الحسن محبا لعثمان ورآه مظلوما» وكان هذا له وزن عند معاوية «إلا أنه لم يدفع عنه هذا البلاء، ربما لأن الجميع تقاعسوا عن نجدته وكان أمر الحصار شاقا ومخيفا على الجميع. وكان الحسن يميل للسلم والموادعة ونبذ الفرقة وكارها للخلاف والفتنة وعازفا عن الحرب والقتال، وكان لحديث جده النبى عنه «لعل الله يصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين» وقع عظيم على نفسه، فتمكن منه الحديث وعصمه ونأى به عن الخلاف والشقاق وربما كانت نصائحه لأبيه تيمنا بهذا الحديث، وقد كان معاوية على علم بهذا أيضا، وقد تيقن بأن الحسن على سلام معه مهما حاول المغرضون دفعه إلى القتال، وكان مترقبا ذلك.
الرواة يؤكدون أن الحسن قد مكث فترة بعد بيعته خليفة لا يجهز لها ولا يفكر فيها، حتى إن الكثير من سادة العراق منهم من كانوا يراسلون معاوية فى الشام ويبايعونه ويطلبون منه المجىء، ويمهدون له الطريق، وكانوا يتلقون منه الهدايا والهبات ويبيتون فى جوار الحسن وفى دياره، ومنهم من لحق جهارا بمعاوية لعلمهم أن السلم والصلح قادمان لا محالة فيكون لهم السبق والفضل، وكان الحسن قد بلغه أن الصحاب ينفضون من حوله إلى معاوية من راسله منهم ومن تبعه، وكان هذا أحد الاسباب التى عجلت له بالصلح، يقول الحسن مخاطبا اهل العراق حين قرر الصلح: «لقد أكرهتم أبى على الحرب وخذلتموه، والآن تكتبون لمعاوية وتبايعونه وتخذلوننى فلا تغرونى فى دينى» وفطن معاوية لهذا حتى إنه أعرض عن العنف وخفف من حدة رسائله، وانتظر الصلح وهو بالغه، لعلمه بما تحمل نفس الحسن من الموادعة والمسالمة.
وكان الصلح بين الحسن ومعاوية أمرا مقضيا، كما جاء فى كتاب معاوية للحسن «أنى صالحتك على أن لك الأمر من بعدى، ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد»، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد، لا أبغيك غائلة ولا مكروها، وعلى أن أعطيك فى كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال، وعلى أن لك خراج «يسا» و«دار أبجرد» تبعث إليهما عمالك وتصنع بهما ما بدالك، والمختصر أن الصلح تم على أن يكون الحسن وليا لعهد معاوية، ويعطيه من بيت المال ألف ألف درهم، وأن يجعل له مدينتين من فارس يفعل بهما ما يشاء، «وافق الحسن وأرسل لمعاوية يطالبه بكتاب يتعهد فيه بتأمين من حارب مع الحسن وأبيه فلا يطولهم أذاه أو عقابه، واستجاب له معاوية.
أما عن مقتله فاختلفوا فيه، الشيعة يقطعون بأن معاوية هو قاتل الحسن بالسم، وأهل السنة يؤكدون أنه مات مسموما ولا يقطعون بأن هذا من تدبير معاوية، والبعض وهذا أقرب للحقيقة يؤكد أن زوجة الحسن «جعدة بنت الأشعث» هى التى دست السم له فى طعامه، وقيل بهدية من معاوية، وقيل أيضا على وعد أن يزوجها ابنه «يزيد» بعد موت الحسن، ولما طالبت بالزواج من يزيد بعد أداء مهمتها قال قولته: «لم تؤتمنى على زوجك فهل نأتمنك على يزيد» وربما هذه الرواية صادقة فى نصفها الأول فقط، والأكيد أن الحسن مات مسموما فقد صرح بهذا قبل وفاته، ولما سأله الحسين من قتلك؟ لم يجبه، ويؤكد الكثير من الرواة أنها لم تفلت من يد معاوية فقد كثر فى عهده هذا النوع من التصفية الجسدية أو الاغتيال السياسى، وكان الأشتر وعبد الله بن خالد بن الوليد والحسن بن على ومحمد بن أبى بكر ضحاياه، ولله جنودا من العسل قالها معاوية كلما لقى أحدهم حتفه قالها فى موت الحسن «كما قالوا» وللحكايات بقية.
«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم