طارق الشناوى
(الجونة) قطعا مهرجان أفلام، إلا أن (السوشيال ميديا) كانت ولاتزال وستظل تركز أكثر على (الفستان)، لا أنكر أن البعض يلعب دورًا سلبيًا فى تأكيد هذا الانطباع، مثل تلك المذيعة التى قررت أن تسرق الكاميرا من النجمات، وأتصورها قد نجحت فى تحقيق هذا الهدف، والدليل أنها صارت (تريند)، وساهم ما يسمى (شرطة الموضة) دور البطولة فى وصولها لهذا العدد الضخم من المتابعات، بينما ولو كانت- تلك الشرطة المزعزمة- فعلا تريد عقابها كما أعلنت كان الأجدى فى هذه الحالة هو التجاهل التام. قبل نحو ثلاث سنوات وفى مهرجان (القاهرة)، وبالمناسبة ليس (الجونة)، استطاعت إحدى النجمات سرقة الكاميرا من المتنافسات، عدما نسيت وهى فى طريقها للسجادة الحمراء أن ترتدى (البطانة) تحت الفستان، هذه المرة نسيت المذيعة المذكورة، ارتداء الفستان ولم تكن هناك بطانة!!. فى بدايات العروض السينمائية، داخل المسابقة الرسمية جاء الفيلم التونسى (ماء العين) الذى سبق عرضه رسميا فى مهرجان (برلين) الماضى، تتكرر الفكرة الدرامية فى عمقها مهما تعددت الإطلالات وزوايا الرؤية، ولايزال الإرهاب يطل بعينيه من تحت الرماد، فى انتظار اللحظة المواتية للانقضاض، على كل مفردات الحياة، الفيلم تأليف وإخراج مريم جوبير وبطولة صالحة الناصرى محمد حسين
نفس هذه (التيمة) الدرامية التى تتناول داعش والتطرف الدينى شاهدناها بمختلف اللغات وأيضا اللهجات عشرات المرات، كما أن المهرجان فى هذه الدورة تضمنت بعض أفلامه عددا منها، إلا أنها لاتزال تشكل فى الضمير العالمى مساحة من الترقب والخوف والحذر، ولا يوجد بلد فى مأمن من ضربات هؤلاء الإرهابيين، ولهذا تلونت بها العديد من الأعمال الدرامية فى الألفية الثالثة وأظنها سوف تستمر، لأنك إذا تصورت أنك حققت انتصارًا عليهم فى معركة وزعزعت دولتهم المزعومة فى (الرقة)، فهذا لا يعنى انتصارا نهائيا وجازما، لأن الفكرة لا تموت، ونحن فى عالمنا العربى تحديدا، مع الأسف لم نعمل بما فيه الكفاية لضرب جذور الإرهاب الذى ينمو ويترعرع فى عقول الآلاف، كما أن خضوع الرقابة فى بعض الدول العربية لبعض من هذه الأفكار، وخوفهم من المواجهة المباشرة والصريحة، يضرب الفن والإبداع فى مقتل. الحكاية عن اختراق الشباب التونسى فكريا وغسيل أدمغتهم ليصبحوا أداة سهلة فى يد من يريدون تجنيدهم،
تشغل بال المبدع العربى والتونسى تحديدا، الكثير من الأفلام والمسلسلات شاهدناهم فيها وهم يمارسون كل طقوسهم الملعونة. ذهاب الشباب إلى محافظة ( الرقة) للانضمام للتنظيم الإرهابى الذى يتدثر عنوة بالدين، ويأخذ ظاهريًا بعض الأحاديث الدينية يعيد تفسيرها كما يحلو له حتى تمنحه غطاء يدعى أنه شرعى، ولديه أسلحته المتعددة فى استقطاب عناصر شبابية تبدو عصية على الاختراق ـ كثير من القضايا المماثلة أثيرت فى السنوات الأخيرة داخل تونس وخارجها، تشير إلى أن هناك جيوبا ما لتلك التنظيمات الإرهابية التى ينتشر عملاءها فى العالم، وحتى فى أوروبا، وجدنا من هم يلعبون هذا الدور، رغم اختلاف الثقافة واللغة والدين إلا أنهم يملكون المفتاح، وهو ليس ماديًا فقط، ولكنهم يجيدون، اللعب بطريقة (غسيل المخ)، حتى يستسلم الضحية، خاصة هؤلاء الذين لا يملكون أى غطاء فكرى أو ثقافى يحميهم من الاختراق والانزلاق، تونس كانت هدفا لهم، لأنها من الدول التى وقفت فى المقدمة مدافعة عن علمانية الدولة، وهكذا رأينا العديد من الأفلام وهى، تضع الدفاع عن الهوية التونسية قضيتها. الأسرة التى تنطلق منها الحكاية نرى فى اللقطات الأولى الأم والأب والطفل الذى يشكل بالنسبة لهم مرفأ الأمان، والبسمة الممكنة، وربما الأمل الذى يلوح عن بعد، إلا أننا نلمح حزنا ما على الأم وغموضا يغلف وجه الأب، وسرعان ما نكتشف مأساة تلك العائلة أن ابنيها الأكبر هاجرا إلى (الرقة) على الحدود السورية مركز (داعش)، بينما الأسرة المسالمة لا تدرى عنهما شيئًا، وتتكشف الأمور مع انتهاء نحو٢٠ دقيقة من الأحداث، عندما يعود أحدهما ومعه زوجة حامل، ونتعرف من خلال التداعيات على باقى الحكاية.
عدد من الأفلام التونسية تناولت هذا الجانب أتذكر منها قبل سبع سنوات (زهرة حلب) إخراج رضا الباهى وبطولة هند صبرى، ومؤخرا أيضا (بنات الفة) لكوثر بن هنية، بطولة أيضا هند صبرى التى تثبت دائما باختيارها للعمل الفنى أن النجم يجب أن يكون أولا صاحب موقف ولا يكفى أن يكون فقط صاحب موهبة.
تونس هى أكثر دولة عربية تحاول الاقتراب فى قوانينها من مفهوم العلمانية، ولديهم محددات اجتماعية تتعلق بحقوق المرأة، تتجاوز الكثير مما يعتبره البعض لا يمكن الاقتراب منه شرعيًا، إلا أن الدولة تسارع بإصدار القوانين طبقا لرؤية مرنة فى قراءة الشريعة على نحو صحيح وعصرى لحماية المرأة، وذلك منذ نهاية الخمسينيات فى زمن الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، ورغم ذلك أو الصحيح أن نقول بسبب ذلك، صارت هدفا لجماعات مثل داعش وأخواتها، وتردد لأول مرة تعبيرات مثل جهاد النكاح وغيرها. هذه الأفلام التى تحمل الجنسية التونسية تلعب دورًا حيويًا وعميقا، الشارع التونسى بطبيعة تكوينه يرفع شعار الحرية للجميع، وتجد فيه كل الملابس ترتديها النساء، ولا توجد مصادرة أو استهجان، كما أن المرأة فى تونس تمسك عادة بزمام الأمور حتى لو لم تكن هى الفاعلة، إلا أنها تحرض على الفعل، وهكذا وجدنا الأم التونسية هى المحور الدرامى، فى فيلم (ماء العين)، رغم أنها من الناحية الفعلية تتلقى الفعل. الفيلم يقدم لنا لقطات من (الرقة) أشبه فقط بومضات، لا تقول كل شىء، بينما مريم جوبير المخرجة وهى أيضا كاتبة السيناريو، تقدم لنا من خلال تداعى اللقطات ما يؤكد أن البطل هى تلك القرية وانعكاس تفاصيل الحكاية عليها والتى انتهت بمقتل الابن الأكبر وانتحار الثانى، لنتابع بعيون الأم المكلومة، ما فعله الإرهاب فى تلك الأسرة تحديدا، والتى غادرتها الابتسامة، استوطن فيها الخوف. الفيلم ليس مطالبا بأن يسرد الحكاية بتفاصيلها، ولكن تعميق الرؤية التى نتابعها بكل ظلالها وليس فقط ألوانها.
المتلقى فى العالم صار وكأنه على الموجة مع تلك الأفلام التى شاهدها الكثير منها، وسنرى أيضا الكثير، فهى تشكل قضية عالمية، كيف تم الاستقطاب على هذا النحو، حالة الأسرة التى أصيبت فى مقتل ليس فقط بفقدان ابنين، ولكن نزيف المشاعر وفقدان جدوى الحياة؟، هذا هو ما تقدمه المخرجة مريم جوبير من خلال الشريط السينمائى، ليس سردًا مباشرًا للحكاية بقدر ما تتأكد أننا أمام شاشة تعبر عن ظلال الحكاية، إلا أنها أبدًا لا تحكيها.
وبتتابع العروض المتميزة فى (الجونة) يبقى السؤال هل ما يتبقى من المهرجان فى ذاكرة (السوشيال ميديا) فيلم عميق ومؤثر مثل (ماء العين)، أم أنهم كانوا ولا يزالون وربما سيظلون يبحثون عن الفستان!!.
نقلا عن المصرى اليوم