غداة انتخابه رئيساً للجمهورية، وقف محمد مرسى يخطب فى ميدان التحرير أمام جموع من «أهله وعشيرته»، مستعرضا مسيرة العمل الوطنى فى مصر على مدى التاريخ الحديث والمعاصر، ليصل إلى مرحلة حكم الرئيس عبدالناصر، فيحاول أن يطعن فيها، ويقلل من شأنها، قائلاً: «الستينيات وما أدراك ما الستينيات؟».
كانت مقولة «مرسى» تهدف إلى النيل من الحقبة الناصرية بالطبع، فى ضوء ما نعرفه جميعا عن العداء الكبير بين ناصر وتنظيم «الإخوان»، وهو العداء الذى وصل ذروته فى منتصف العقد السابع من القرن الماضى، حين تم إعدام سيد قطب وتشريد أقطاب جماعته.
يحمل «الإخوان» غلاً وحقداً كبيرين على ناصر وحقبته التاريخية، وربما لا يماثل عداءهم له شىء سوى حقدهم على الدولة الوطنية، ومع ذلك فقد اضطر مرسى لاحقاً لأن يعدل خطابه بشأن هذا الزعيم الخالد، وبدلاً من الطعن فيه والغمز من قناته، وجدناه يوجه له التحية والتقدير، مرة خارج مصر، عرفاناً بدوره فى إقامة تحالف دول «عدم الانحياز»، ومرة داخلها عندما تحدث عن جهوده فى إقامة قاعدة صناعية وطنية.
لقد استطاع الرئيس عبدالناصر أن يدافع عن نفسه، وهو «رجل ميت»، كما هو مفترض، فى مواجهة «عدو متبجح ومأفون ومتغطرس» يمثله «رجل حى»، كما هو مفترض أيضاً، ولسبب أو لآخر، بات هذا العدو الحاقد غير قادر على توجيه سهام النقد المسمومة لعدوه، بل الأنكى والأفدح أثراً من ذلك، أنه أصبح مضطراً لكيل المديح له.
تعطينا تلك القصة أفضل مثل ممكن أن نسوقه عن «قدرة الأموات على الدفاع عن أنفسهم»، أو «صعوبة تخطى حقائق التاريخ تحت ضغط الضغائن والانحيازات»، أو «خطورة إهانة ما استقر فى الوجدان الجمعى للأمة».
سيمكننا أيضاً أن نسوق عشرات الأمثلة على حملات التشويه التى طالت قادة أو سياسات أو ثورات، فشوهت حقائق أو لطخت صورا أو حرفت اتجاهات، قبل أن يصحح التاريخ روايته، ويتحقق الإنصاف.
بسبب تكرار تلك الأمثلة، وتكرس الثقة بقدرة الجمهور على إدراك الحقائق فى نهاية المطاف، لم أكن من هؤلاء الذين شعروا بالهلع من موجة الهجوم الحادة الأخيرة على «٢٥ يناير»، كما لم أكن بالطبع قلقاً أو مصدوماً من الطعن والتشويه والهجمات المجنونة ضد «٣٠ يونيو»، خصوصاً من تنظيم «الإخوان» وأتباعه فى اليمين الدينى المتطرف وداعميه فى قطر وتركيا وبعض الدول الغربية.
ستنتصر الحقيقة مجدداً بكل تأكيد، وسيكتب التاريخ أن المصريين ثاروا على حكم مبارك الفاسد والعاجز، كما أطاحوا بحكم «الإخوان» الذى سرق ثورتهم، وصادرها بفاشية وانتهازية وخطل، لمصلحة مشروعه الخائب المدعوم من دول معادية.
وسيفهم الغربيون، وقبلهم القطريون والأتراك، بكل تأكيد أن الشعب المصرى ثار فى «٣٠ يونيو» انتصاراً لدولته الوطنية، وهويته، وتاريخه، وأنه لن يقبل أبداً بأن يحكمه متطرفون وعملاء ومهووسون.
واستنادا إلى ذلك فقد أدركت أن بعض أصحاب المصالح سيظلون يهاجمون «٢٥ يناير» أو «٣٠ يونيو»، وهو أمر لا يزعجنى كثيراً، كما لا أعتقد أن سن قوانين لحماية هذين الحدثين من الإهانة يخدمهما كثيراً.
ما يخدم «٢٥ يناير» ليس سوى الانتصار لقيمها: «العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية»، وما يخدم «٣٠ يونيو» ليس سوى التأكيد على ثوابتها: «رفض الاستبداد، والتمسك بالدستور والقانون».
ما نحتاجه ليس إصدار قانون بتجريم المساس بهذه أو تلك، لكن ما نحتاجه فعلا هو حماية حرية الرأى والتعبير، والدفاع عن الكرامة الإنسانية، عبر تنفيذ القانون الذى يقضى بتجريم السب والقذف، والتزييف، وانتهاك الخصوصية، وتغول أجهزة الأمن.
لا نريد قوانين استثنائية، وكل ما نرجوه هو تطبيق القوانين القائمة بالفعل.
حماية «٢٥ يناير» لن تتحقق بقانون، لكنها ستتحقق بتطبيق القانون.