عادل نعمان
يرى علماء التربية والاجتماع أن بناء الشخصية واتزانها النفسى والعقلى، وسلوكها الإنسانى، وتجاوبها مع الآخر، يبدأ عند السن المبكرة للطفل، والتعليم أحد الأبواب بل أهمها على الإطلاق، لعبور الطفل إلى العالم الرحب سليما معافًى نفسيًا وعصبيًا، وما يستقبله الطفل فى بواكيره الأولى هو الخطوط العريضة لبناء شخصيته، إما بناء عفيًا سليما، وإما بناء فاسدًا ومدمرا.
ولما نبحث فى الغالب عن أسباب إغلاق العقل، وعدم القدرة على الفهم والفرز والاختيار الحر، وغياب منهج التحليل والفحص المحايد، واحتكار الحقيقة والتعصب لها، وعدم قبول الجدل حولها حتى لو كانت متصادمة مع العلم والعقل، نجدها فى تدريس النصوص الدينية التى تتصادم مع حرية الجار، وتدعوه إلى الاستعلاء عليه، وإلى تمييزه والتفريق بينه على أساس العقيدة، وإلى الإقلال من شأنه وقدره، وعدم احترام حقوقه الطبيعية التى كفلتها القوانين الدولية، وهو طرح غالبًا لا يقبل النقاش أو النقد أو الجدل أو الإضافة أو الحذف، سواء نصوصًا كانت أو تراثا بشريا مكتوبا ومنسوخا ومنقولا، تحيطه القداسة من كل جانب، وترتقى وترتفع حتى تمثل جزءًا ليس باليسير من الدين، لا ينفصل، ولا ينفك عن بنائه، ولا يهجره، ولا يغادره، وهى فى حقيقة الأمر خليط بين الحقائق والفلكلور والأساطير، وعلى أمزجة وأهواء الحكام والفرق.
وأصبح كل هذا فى حكم المسلمات والبديهيات، فيصبح عقبة بن نافع نموذجا وقدوة لأطفالنا فى المدارس، وهو المقاتل الشرس الحارق القاتل بديلا عن أحمد عرابى وزويل ومجدى يعقوب! ومبدأ الولاء والبراء مقدم على مبدأ الكفاءة، وتغليب واستعلاء دم المسلم على كل دماء البشر يغلب الحق، وعدم قتل المسلم بكافر يفوز ويهزم مبدأ العدل، فلما يؤمن ويعتقد ويسلم هذا الطفل بهذه المسلمات، تنهار منذ طفولته منظومة القيم الإنسانية، ويتصدع بناؤها المجتمعى، ويصدأ قلبه كالحديد، ويتحجر ضميره كالصخر، ويتخطى الرحمة والعدل والحق عن حب استنادا إلى حكم أو أمر عقدى أو فتوى بشرية غالبا جائرة ظالمة، إلا أنه يمارسها كما يمارس الصلاة والشعيرة، بل المصيبة أن «الردم» قد غطى البذرة التى ترتفع سنابلها ونجنيها فى كل «طرحة» وفى كل «زرعة» مرا وحنظلا ولا فكاك منها إلا باجتثاث هذه البذرة من باطن التربة وهو أمر عواقبه وخيمة.
أقول قولى هذا بمناسبة حادث الطفلة المسيحية «يارا» فى حضانة التجمع الخامس، وهى لشخصية معروفة، وما تم من عزلها عن زملائها بحجة حصة الدين، وما أزعجنى حقيقة هو حجم الرد الداعشى الذى دمر منظومة «الفضائل» و«المكارم» عند أولادنا، وكأنهم بهذا يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بل يسيئون إلى دينهم وأنفسهم، ولا يتهمنى أحد بمحاربة الدين، فلست محاربا له، بل مؤيدا وداعما للدين وللحياة ولمجموعة القيم الإنسانية، والمناقب العالية السامية، وأكاد أجزم أنهم جميعا بناء واحد متعاونون ومتلازمون جنبا إلى جنب، لا يستغنى الدين عنهم، بل هو فى حاجة إليهم، وهم ليسوا فى حاجة إليه، بل حفاظا على الدين والدولة والنشء السوى لكل الأولاد فى مدارسنا أدعو إلى عدم تدريس الدين فى المدارس على هذا النحو العنصرى إطلاقا، وتدريس مجموعة القيم والمبادئ والمثل لكل التلاميذ المسلمين والمسيحيين.
وأزيد الأمر تهورا بتحويل المعاهد الأزهرية إلى التعليم العام فورا، وإلا قل لى بربك ماذا تصنع هذه التربية الانفصالية والاستعلائية بالطفل المسلم والمسيحى على السواء؟ وماذا أصابنا؟ ومن أين جاءنا هذا السوس الذى ينخر عمود الخيمة التى نستظل بظلها؟
بصراحة ودون مجاملة هذا هو التعليم العنصرى التمييزى بين التلاميذ فى الفصل الواحد، هذا مؤمن وذاك ضال، والأخير المغضوب عليه. تحكى ابنتى العائدة لزيارتنا من «سياتل» إن مديرة المدرسة فى «سياتل» قد سحبت كتابا من مكتبة المدرسة.
ما هو هذا الكتاب؟ هذا الكتاب أو هذه القصة لمجموعة من الألوان الأحمر والأسود والأصفر وغيرها، وكل لون من هذه الألوان يبعث برسالة عن نفسه إلى التلميذ صاحب الكتاب، إلى هنا والأمر بسيط هكذا نرى نحن، إلا أن مديرة المدرسة قد رأت غير ذلك تماما، فربما هذه الألوان فيما ترسله إلى التلميذ قد تشكل فى عقله اتجاها أو رأيا ما عن الألوان كرها أو حبا، فتنسحب إلى لون تلميذ بجواره أو زميل له فى المدرسة!
هكذا يكون الفكر، وهذه هى أصول التربية الصحيحة السوية المعتدلة لأبناء الوطن، إذا أردنا النجاح لهم وللوطن الواحد، وكنا أحرص على الجميع، فهم جميعا نبتة واحدة، وبذرة واحدة قبل ظهور الأديان.
أفيقوا قبل فوات الأوان.
نقلا عن المصرى اليوم