شريف الشوباشى
قال لى صديقى الألمانى قبل أن يغادر مصر بعد فترة قضاها بها: أرجو ألا تغضب مما سأقوله لك لسبب بسيط وهو أنه نابع من حبى لبلادك وتقديرى الكبير لها.
 
لقد أحببت مصر وعشت فيها أياما سعيدة لن أنساها طوال حياتى.. وقبل أن آتى إلى هنا قرأت كثيرا عن مصر وأدركت كم أننى مدين لها بالكثير مثلى مثل أى وأحد من أبناء البشرية لأنها أم الحضارات. 
 
أدركت من هذا التمهيد الذى يثلج الصدر أن الرجل يستخدم تكتيك الطبيب الذى يدهن الجلد بالبلسم قبل أن يدك الحقنة المؤلمة أو الأم التى تضع الحلوى فى فم ابنها قبل أن تسقيه الدواء المر. قلت له: هات ما عندك.
 
قال بعد لحظة تردد: إذا أعطانى أحد موعدا فإننى أشك أنه سيصل فى موعده.. بل أشك إن كان سيحضر أصلا.. وإذا قال لى أحد الباعة هذه السلعة تساوى كذا فإننى أشك أن هذا هو سعرها الحقيقى بل ينتابنى شعور بأنه يغالى فى السعر وأنه يتوقع منى أن أفاصله واضطر بالفعل أن أجادله حتى أصل إلى سعر أرى أنه معقول ثم يتضح لى بعد ذلك أنه ضحك على فى النهاية.
 
وإذا سألت شخصا عن اسم شارع فأشار بثقة شديدة فى اتجاه معين أو قال مثلا: ثالث شارع يمين، أشك كثيرا فى أننى سأجد الشارع الذى أبحث عنه بعد ثلاثة شوارع.
 
ويضيف صديقى الألمانى مبتسما: وهذا الشك ليس شكا وجوديا بنيته على أساس فلسفة ديكارت الشهيرة لكنه وليد تجارب كثيرة ومغامرات وقعت لى لأننى سارعت بتصديق ما يقال لى من الوهلة الأولى.
 
ويبدو أن علامات الغضب بدأت تظهر على وجهى حيث سارع صديقى الألمانى قائلا: بالمناسبة فلست أنا الذى يشك بصفتى أجنبيا بل إن التجربة أثبتت لى أن المصرى نفسه يشك فى كل ما يقال له ويحاول تفسير ما يسمعه من الآخرين على كل الأوجه باستثناء الوجه المباشر والصريح. وقد لمست هذا فى تعاملاتى خلال الفترة التى قضيتها فى بلادكم الجميلة واعترف لى كثير من اصدقائى المصريين بذلك.
 
ويسترسل صديقى الألمانى فى كلامه ومن الواضح أنه يحاول تخفيف المعانى حتى لا يستثير أعصابى: وعندما أكون فى الطريق السريع وأرى علامات تنبئنى بعدد الكيلومترات المتبقية على المكان الذى أقصده، أشك فى صحة الأرقام المكتوبة. والسبب ليس الاستهتار بمن وضعها لكن لأننى كنت مسافرا فى يوم إلى الغردقة وكان الطريق مملا فأردت أن أسلى نفسى وبدأت أعقد مقارنة بين علامات الطريق ومؤشر الكيلومترات فى سيارتى فوجدت تفاوتا بين الاثنين.
 
ولأننى أثق فى عداد سيارتى أدركت أن الأرقام الواردة فى علامات الطريق بها الكثير من العشوائية.
 
ويستطرد الرجل قائلا: ومن أكثر ما عانيت منه أنه إذا أكد لى أحد الذين يعملون معى أنه أنجز ما طلبته منه أشك كثيرا فيما يقول. وكثيرا ما كان يتضح لى أنه لم يفعل ما طلبته. وربما كانت دوافعه طيبة بمعنى أن غرضه الحقيقى ليس أن يكذب على أو يؤذينى بل هو يريد أن يطمئننى ويريحنى نفسيا وهو لا يدرك أن مداراة الحقيقة قد يترتب عليها مشكلات فى العمل.
 
وبدأ صبرى ينفذ من كلام الرجل لكنه أكمل كلامه وكأن بيده مشرط جراح قاطع:
 
أقول لك أكثر من هذا.. فأنا عندما أذهب لإجراء فحوصات وتحاليل فى بعض المعامل فإننى أشك فى الأرقام والبيانات الواردة فى التقرير النهائى وأؤكد لك أن أكثر من صديق مصرى سافر إلى الخارج بتحاليل عن حالته لكنه فوجىء بأنها غير دقيقة تماما عندما أعادوا التحاليل فى الخارج. 
 
وقفزت إلى ذاكرتى لحظتها تجربة عشتها بنفسى حيث قام أحد كبار نجوم الفن بزيارتى بمكتب الأهرام فى باريس فى نهايات التسعينات وكان فى حالة ذهول لأنه اكتشف بالفعل فوارق فى البيانات والأرقام التى جاء بها من مصر والنتائج التى خرجت من معامل المستشفى الفرنسى الكبير الذى ذهب إليه.
 
واختتم صديقى الألمانى كلماته بجملة لا زال صداها يرن فى أذنى: باختصار أنا أشك إذا أنا فى مصر
 
سالته: لكننا قمنا بثورة وتغيرت الأمور فى مصر أليس كذلك؟ أجاب: عشت أيام الثورة وأنا فى حالة سعادة غامرة وكان موقف الشعب المصرى الشجاع نموذجا يحتذى وأنا واثق أن هذه الثورة ستغير الأوضاع السياسية وأن الديمقراطية ستسود فى مصر بعد بضع سنوات. لكننى مضطر أن أقول لك إن الثورة لم تغير من عادات وسلوكيات الناس ولا من الثقافة السائدة التى تراكمت بفعل سياسات تعليمية وإعلامية وتربوية وممارسات خاطئة.
 
قبل أن يتركنى ليستعد للرحيل قال صديقى الألمانى: فى رأيى أن تغيير مثل هذه الثقافة والعادات والأخلاقيات لا تقل أهمية عن بناء الدولة الديمقراطية إن لم تزد عنها. فأنتم الآن فى حاجة إلى إعادة بناء الشخصية المصرية لتعود لما كانت عليه فى عصر آبائكم الذى تسمونه الزمن الجميل.
 
ولا تغضب منى إن قلت لك أنه طالما ظلت هذه السلوكيات سائدة عندكم فستظل مصر تواجه المشاكل المستعصية لأن لديكم أزمة ثقة كبيرة بين المواطنين فيما بينهم من ناحية ومع السلطة من ناحية أخرى. وقد ثبت أن الثقة المتبادلة بين أبناء المجتمع هى مفتاح من أهم مفاتيح التقدم والرقى.