مدحت بشاي
هنالك فضاءات دينية ثلاثة، وهى فضاء الإيمان الذى فى جوهره تساؤل حول الماورائى والحياة والألم والحب ومعنى الوجود. وهذا التساؤل عالمى، حيث المؤمنون فى كل الأديان والأزمنة والأمكنة يلتقون فى مجالات ومستويات وتعابير مختلفة. وفضاء الدين فى الحياة العامة، وهو موضوع حقوقى يتعلق بممارسة الشعائر وتعليم الدين وإنشاء أماكن عبادة، أما الفضاء الثالث فهو فضاء السياسة والسلطة، وهنا ينبغى إدراك أن كل تعبئة وتنافس فى الحياة السياسية من قبل رجال دين أو سياسيين وكل تبرير دينى لعمل سياسى مفخخ دائماً وملىء بالمحاذير والمخاطر.

يقول العالم «فرويد» فى نظريته حول «نرجسية الاختلاف» ما يشير إلى أن الاختلافات البينية مهما كانت بسيطة، فإننا نجعل منها مرتكزاً هاماً فى التركيبة الإنسانية الشخصية بعكس ما تم التعارف عليه عند أصحاب شعار «مُلاك الحقيقة المطلقة»، وعليه فإن اعترافنا بأهمية الاختلافات وتقدير وجودها ودون بخس حق المختلف لإقامة شكل من التواصل الحميم المفيد والمثمر، هنا فقط تبدو أهمية انضباط عمل الإعلام بشكل عام، والإعلام الدينى بشكل خاص لدعم فكرة القبول بالتنوع وإدارة آلياته بموضوعية ومنهجية معتبرة.

وعليه، فإن توهم إمكانية التوصل لعملية اندماج وطنية دون دعم وجود ثقافة الاختلاف بين كل قوى جماعات الفكر والعمل السياسى كارثة تحيق بعملية السلام الاجتماعى والتوافق الإنسانى.

لابد من التحول من شكل الخطاب الدينى العاطفى والإعجازى والعلاجى، إلى خطاب إنسانى واقعى يستوعب احتياجات الناس وهمومهم الملحة والآنية التى من شأنها أن تسهم فى إعادة الثقة بالخطاب الدينى المطلوب، والارتقاء بمضمون الإعلام الدينى.

وهنا يذكرنا المفكر الأردنى «على الحافى» بما حدث مع المخرج السينمائى العربى مصطفى العقاد الذى أخرج فيلم الرسالة، والذى يُعدُّ من أعظم الأعمال السينمائية التى تعبر عن المضامين الدينية فى الإسلام. والمحزن أن نهاية العقاد كانت مع ضحايا تفجيرات عمان الإرهابية عام 2005، والتى أعلن تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين مسؤوليته عنها! وليس من باب المصادفة أن تكون المرجعية الدينية التى يتبعها هؤلاء الغلاة، تحرِّم السينما والفن والرسم والموسيقى والمسرح، وترى فيها رذيلة وانحرافًا عن الإسلام!

وهو ما تكرر عندما احتشد عدد من كهنة التشدد للتظاهر رفضًا لعرض فيلم «بحب السيما» لأسباب قالوا إنها تتعلق بتشويه الديانة المسيحية والكنيسة المصرية وكهنتها، دون تعيين واقعى لملامح ذلك التشوه، وأخذتهم حمية الغضب لإغفال الكثير من القيم والمفاهيم الرائعة التى تضمنتها الجمل الحوارية من قبل الطفل بطل الفيلم والأب. لقد قدم الفيلم العديد من القيم التربوية والروحية والسياسية والاجتماعية لم يعوا قدرها للأسف، وهنا كان ينبغى للإعلام الدينى المستنير أن يساير ويدعم أهل الإبداع حتى لا يُمنع عرض الفيلم، ولكن للأسف كانت تبعية مؤسسات الإعلام الدينى للمؤسسات الدينية قد حالت دون ذلك، وهى مشكلة أخرى ينبغى تناولها فى مقال قادم.. على الإعلام الدينى أن يكون أهم، وجل مشاريعه تتعلق بعمليات بناء الإنسان المواطن الصالح، المحترم لحقوق الإنسان والمناضل من أجل تكريس مفاهيم السعى لتحقيق المواطنة الكاملة، ودعم السلام الاجتماعى وتوطيد أسس العدالة الاجتماعية ورفض التمييز بين الناس. لابد من رفض التوجه الغريب فى العمل على تعظيم عقائد أديان ومذاهب عبر الإلحاح على تقزيم وإهانة الأديان والمذاهب الأخرى من خلال عقد مقارنات مثيرة للشارع المصرى، الذى بات جاهزاً للاشتعال السريع بعد تغيير المكون الفطرى للإنسان المصرى على مدى الحقب الأخيرة نتيجة هبوب رياح طائفية مقيتة واردة من بلاد الثقافات البدوية الصحراوية، وانتشار غباوات تشويه صحيح الأديان.
نقلا عن المصرى اليوم