CET 00:00:00 - 18/07/2010

مساحة رأي

بقلم:نصر القوصى
داخل قاربه الشراعي العتيق، الراسي في برطومه “مرساه” يقضي العم خليل معظم ساعات يومه، مستعيداً ذكريات سنوات طويلة قضاها وسط مياه النيل، ينقل السائحين إلى البر الغربي والعكس، ويحكي لهم بلغات شتى قصة حضارة تضرب بجذورها فى عمق التاريخ.
وطوال ما يزيد على ربع قرن من الزمان، ورغم سنوات عمره التي قاربت الثمانين، لا يزال العم خليل يحرص على متابعة العمل في مركبه بنفسه، غير عابئ بنصائح الأبناء والأحفاد بضرورة ان يخلد إلى الراحة بعد سنوات طويلة من الشقاء وراء لقمة العيش، لكن العجوز يضرب بكل تلك النصائح عرض الحائط ويقول في طمأنينة وهو ينظر إلى صفحة المياه في نيل الأقصر: كيف أترك حياتي؟

ويعد الريس محمد السيد خليل أشهر مراكبي سياحي في الأقصر بلا منازع، ليس فقط لأنه يملك “برطومين” على شاطئ النهر الخالد، ولكن لأن الغالبية العظمى من السائحين يفضلون التعامل معه، نظرا لثقافته الواسعة، وإجادته لأكثر من لغة أجنبية إجادة تامة.
عندما جلست إلى العم خليل ليحكي لي قصته مع الحياة، هبت نسمه هواء حركت مياه النهر، فتحرك القارب قليلا، فانتفض العجوز من جلسته وهو ينظر إلى أحفاده في سخرية لاذعة وينطق بلهجة صعيدية: ما قادرش انت وهو تحلو الشراع، عاوزين البابور يشدكم”.

كان البابور “مركب سياحي ضخم” يمخر عباب النهر إلى جوارنا بينما كان العم خليل يستعرض قصة حياته مثل شريط سينمائي وهو يقول: “عشت أياما كلها خير وسعادة، حيث خرجت إلى العمل في النهر منذ كنت طفلاً صغيراً، كنت أحل بمفردي الشراع من أربع إلى خمس مرات ليلا، كانت الصحة لا تزال في عنفوانها، ولم يكن المرء يكل ولا يمل أو يشعر بتعب في سبيل راحة الركاب من سائحين وأولاد بلد”.

يتذكر الريس خليل تلك الأيام الفارقة في حياته، والتي نسجت علاقة شديدة الخصوصية بينه والنهر وبين أصدقائه من السائحين في الوقت ذاته وكأنها حدثت بالأمس القريب، ويقول: إنها الحياة التي جعلت كثيرا من المرشدين السياحيين يفضلون التعامل معي، والتنزه في مركبي مع وفودهم من الأجانب في أحضان النيل.

ولم يكد العم خليل يرتشف بعضاً من كوب الشاي أمامه حتى فاجأنا هولندي شاب، تهلل وجه المراكبي العجوز فرحاً وهو ينتفض وافقاً وفاتحاً له ذراعيه، كان الهولندي الشاب ويدعي “ضارما” في زيارة جديدة إلى الأقصر برفقة مجموعة من الأصدقاء الهولنديين، وأصر على زيارة صديقه العجوز، الذي راح يداعبه بلغة عربية مكسورة، وبخفة ظل تعلمها من رفقة سنوات مضت.
“ضارما” الذي فاجأني بأنه هولندي من أصل مصري، لم يتمكن من إخفاء عشقه للأقصر ولمصر، ويقول لي: هذا الرجل يُجسّد مصر بخفة ظلها وجمالها وطيبة أهلها، لذلك فأنا أحبه كثيراً.

على مدى ساعات أبحر الريس خليل في مياه النهر متجه برفقة “ضارما” والمجموعة المصاحبة له إلى جزيرة الموز، في الطريق إلى الجزيرة قال لي الريس “بكر” الابن الأكبر للريس خليل وهو يشير إلى أبيه: كل المراكبية في الأقصر يستعينون بخبرة هذا الرجل، وهم لا يزالون يستنجدون به كلما حدثت مشكلة ما لمركب في عرض النهر.

من بين ثمانية أبناء للريس خليل لم يرث تلك المهنة عنه سوى اثنين فقط ويقول الابن الأوسط الريس “حجاج”: أصبحنا بفضل والدي وخبرته من أفضل المراكبية في الأقصر، بل إننا صرنا الوحيدين اللذين تستعين بنا المحافظة في عروض مهرجان السياحة والتسوق، حيث نقوم بتنفيذ عروض بالمراكب الشراعية أمام السائحين.

الشهرة العريضة التي حظي بها الريس خليل دفعت العديد من الشركات السياحية إلى التعاقد معه منذ ما يزيد على عشرين عاماً، لتجهيز رحلات الليلة الواحدة أو الليلتين للعديد من الوفود الأجنبية التي ترغب في رحلة نيلية من وإلى الأقصر وأسوان، ويقول الريس خليل عن تلك الرحلات: نبحر بين الجبال والخضرة، وتحتنا المياه الزرقاء وفوقنا السماء، وعند الغرب نرسو إلى الشاطئ ونجهز لحفل صغير، نكمل به سعادة السائحين على إحدى الجزر.
ويضيف: كانت أياما غاية في الروعة والجمال، لكني لم أعد قادرا على القيام بتلك الرحلات اليوم، وأترك الأمر لأولادي وأحفادي.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق