CET 00:00:00 - 04/04/2010

مساحة رأي

بقلم : د. أحمد الخميسي
يقال إن التفاصيل في الفن هي التي تصنع كل شيء. التفاصيل في حياتنا أيضًا هي الأساس. التفاصيل الكثيرة التي تثب وتخرج لسانها لتقول لك لقد اختفى المنطق من حياتنا.. تفاصيل عجيبة تجعلك تشعر بأنك تواجه واقعًا مختلاً يمضي ويتحرك ويتقدم ويتأخر ويتمدد ويتقلص بدون أي منطق، كأنه مشهد عبثي ضخم ونحن فيه عرائس في مسرحية أحلام بلا رابط، تحركنا من أعلى قوانين اقتصادية واجتماعية وسياسية.
المنطق يقول إن أديبًا كبيرًا في التسعين من عمره هو يوسف الشاروني لابد أن يحظى برعاية الدولة، أو على الأقل ألا يُخرجه أحد من شقته، لكن عضو مجلس الشعب صاحب العمارة التي يسكنها الشاروني في المعادي قرر هدمها على رؤوس السكان وطرد الكاتب منها ليتمكن من إقامة عمارة مرتفعة !
المنطق يقول إن الطلاب هم الذين يُضربون بينما يلومهم الأساتذة على تهورهم، لكننا شهدنا مؤخرًا إضرابا لأساتذة الجامعة وطلابًا يحاصرون الإضراب بعرض عسكري !

المنطق يقول إن من يفوز بجوائز الحج والعمرة هم المسلمون، لكن الحزب الوطني في مدينة 6 أكتوبر نظم حفلا لتكريم الأم المثالية والتكفل بمصاريف عمرة لها، فازت فيه بالجائزة المواطنة القبطية سارة فوزي طناس؟!.
المنطق يقول إن عاصمة كالقاهرة في أمس الحاجة لزرع الأشجار لتنقية الهواء إن لم يكن بدافع جمالي، أما في الواقع؛ فتقرأ أن إدارة حي السيدة زينت قامت في سبتمبر العام الماضي بمذبحة قطعت خلالها الأشجار الخضراء التي كانت تظلل شارع نوبار والشوارع المحيطة به، وأن الإدارة ارتكبت مذبحتها تلك في منتصف الليل كاللصوص الذين يقترفون الجرائم تحت جنح الظلام.. المنطق يقول إن الأطباء للعلاج، أما في الواقع فإنك تقرأ عن حادثة الموظفة التي اغتصبها طبيب في عيادته !
 المنطق يقول إن الشرطة في خدمة الشعب، أو على الأقل لا تضر الشعب، لكنك تقرأ كل يوم عن المواطنين الذين يدخلون لطلب الخدمة فيخرجون مشوهين من التعذيب !

والمنطق يقضي بأن التلاميذ يتجهون للمدارس لتلقي العلم، فإذا ببعضهم يتلقى الضربات حتى الموت أحيانا! المنطق يقضي بأن الأصوات الجميلة هي التي تغني، فإذا فقط بالأصوات القبيحة تملأ الساحة وحدها زعيقا منفرًا !
وها أنت ترى أن الغالبية العظمى من الكتاب تقرأ، بينما الغالبية العظمى من القراء تكتب! المنطق يقول إن بلدًا بمثل أوضاعنا لابد أن تسد حاجتها ذاتيًا من القمح، والحبوب، فإذا بنا نسد احتياجاتنا من الرواية ونكتفى ذاتيًا بعد أن أصبح لدينا روائي لكل مواطن !

المنطق في كل الدنيا يقول إن المواصلات للتحرك والانتقال من جهة إلي أخرى، لكن عندنا المواصلات هي للتعطل والتوقف بين جهة وأخرى.. وفي كل دول العالم يحفظون اللحوم في الداخل ويعرضون الأحذية في الخارج، لكننا نفعل العكس، اللحوم في الشارع والأحذية وراء الزجاج !
في الدنيا كلها يحتفون بالجمال، لكننا نقدس القبح، وحين يكون لدينا شارع له طابع تاريخي وجمالي خاص مثل طلعت حرب، فإننا نسارع ببناء مبنى ضخم قبيح في وسطه تحت عنوان "مول تجاري".. في روسيا قام النظام السوفيتي بهدم إحدى أهم الكنائس بموسكو، فتمت إعادة بناء الكنيسة كما كانت بالطراز نفسه بصبر وعلى مدى سنوات طوال.. أما عندنا؛ فإننا سارعنا حين احترقت الأوبرا القديمة إلي بناء جراج سيارات مكانها !
المنطق يقول إنه عندما تصبح حياة المواطن معاناة متصلة بشأن السكن والتعليم والعلاج والرواتب، فإنه لا يغني – كما يفعل المواطن عندنا- "حلوة يا بلدي " !

ولقد تطور مفهوم المنطق في رحلة طويلة من المنطق الصوري إلي المنطق الجدلي، لكن التفاصيل التي تثب إلينا هنا وهناك لا يمكن إخضاعها لأي مفهوم للمنطق عبر التاريخ! فلا هي "ماشية صوري ولا هي ماشية جدلي".. لقد خرج المنطق من حياتنا، ولم يبقَ إلا أن نعلن عن مكافأة كبيرة لمن يعثر عليه أو يستدل على مكانه، بعد أن صارت القاعدة الوحيدة أنه ما من قاعدة لأي شيء.  

  كاتب مصري
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق