بقلم : مادونا شاكر
شغلت قضيته الوسط القبطى والمصرى والحقوقى فى الداخل والخارج .. وكان خبر الحكم عليه شيئ محزن للقلوب لما فيه من ظلم وإجحاف .. فثارت الأقلام وخرجت المسيرات والإحتجاجات تطالب بالإفراج عنه وتابع العالم أخباره بشغف وما ستؤول إليه القضية .. لكن هو كان أقوى من كل هذا الظلم فكان الرب معه كما كان مع يوسف الصديق فأعطاه صبراً وتحملاً لهذه التجربة المريرة وأعطاه نعمة فى عيون كل من يقابله ويتلامس معه وأستطاع بوداعته ومحبته للجميع أن يكتسب إحترامهم وصداقاتهم لأنهم كانوا يرون المسيح فى أقواله وأفعاله .
كان لى شرف لقاؤه والتحدث معه عن الثلاثون شهراً التى قضاها خلف القضبان فى سجن طره .. وكيف أستقبل خبر الحكم عليه ظلماً ؟ وكيف كان القائمون على هذا السجن والسجناء يتعاملون معه ؟ وهل أجبروه على خلع ملابسه الكهنوتية أم خلعها بإرادته الحرة ؟ وكيف كانت مشاعره عندما علم بقرار الإفراج عنه ؟ وأسئلة كثيرة سيجيب عنها أبونا متاؤس وهبة .. وسنتعرف من خلالها ماذا كان يدور خلف القضبان .
 
ماهو شعورك يا أبى عند صدور الحكم عليك بخمس سنوات؟
ذهبت إلى المحكمة فى ذلك اليوم ١٢ / ١٠ / ٢٠٠٨ وكانت الجلسة الثالثة .. فأنا حضرت جلسة شهر ٦ وشهر ٨ وكلها جلسات إجرائية تقدم فيها الأوراق والطلبات فقط وكان حاضراً معى أ / حسنين عبيد من أكبر المحامين ووكيل جامعة القاهرة الذى طمأننى وقال لى بأننى ليس لى علاقة بالأمر وستنتهى القضية قريباً .. وأ/ كمال حبيب وأ / فتحى راغب .. والكل كان يتوقع تأجيل الجلسة كالعادة ولكنى كنت متيقن بأن القاضى سيصدر حكم بسجنى فوالدة الفتاة كانت تصرخ وتبكى للقاضى فوعدها بسرعة إنهاء تلك المسألة فقام فى الجلسة الثالثة بنطق الحكم وهذا يثبت أن الحكم كان جاهزاً من قبل .. لذا فأنا كنت متأهب ومستعد لهذا الحكم وقلبى مليئ بالسلام .. فقبلها بليلة واحدة صليت وتركت كل متعلقاتى تقريباً للمدام ووصيتها وودعت أولادى .. رغم أن مدير أمن المحكمة والمحامين وغيرهم نصحونى بعدم حضور الجلسات إلا أنى فضلت أن أواجه الموقف وأواظب على حضور الجلسات فليس لدى ما أخاف منه فلم أفعل ما يخالف القانون حتى لا أحضر .
 
حدثنا عن يوم ١٥ /١٠ /٢٠٠٨ كيف كان وماذا حدث فيه؟
بعد نطق الحكم يوم ١٢/ ١٠ قبضوا عليً وكان شيئ غير متوقع بالنسبة للأسرة فتم حجزى ثلاث أيام حتى يوم ١٥ / ١٠ /٢٠٠٨ فى ذلك اليوم تجمهرت الصحافة والإعلام .. ولكنهم أحضروا سيارة ترحيلات خاصة وأقلونى بها من الأبواب الخلفية بعيداً عن هذه الضجة الإعلامية وبدورها أستقلت الأسرة سيارة أخرى لتلحق بى .. وكان الضباط والمسؤلين يعاملوننى معاملة طيبة وذلك حتى لا يثيرون حفيظة الأقباط أو منظمات حقوق الإنسان .. إلى أن وصلوا بى إلى سجن طره كان كل شيئ جاهز وكنت أعانى وقتها من دور برد شديد وسخونة رهيبة .. ومن المعروف أن كل سجين جديد يأتى يتم عمل الكشف الطبى عليه ليسجلوا حالته الصحية قبل دخوله السجن .
 
ماذا عن ملابسك الكهنوتية هل أجبروك حقاً على خلعها كما روج البعض ؟
فعلاً طلبوا منى خلع ملابس الكهنوت لأرتدى ملابس السجن ولكنى رفضت خلعها لكن مفتش المباحث تناقش معى وأقنعنى بقوله إذا أستمريت بإرتدائها ستهين الكهنوت لأن من بالسجن لن يتركوك بحالك ففكرت للحظة ووجدت أنها رسالة من الله عن طريق هذا الشخص كى يطمأننى ويحلنى .. وفعلاً أرتديت البدلة الزرقاء ووضعونى فى حبس إنفرادى فى زنزانة يبلغ إتساعها متر واحد فى متر ونصف بها طاقة حديدية صغيرة للتنفس .. ويقع هذا الحبس فى قسم المسجلين خطر والمجرمين الخطرين من تجار المخدرات والجماعات الإسلامية المتطرفة والجواسيس .
 
كيف كانت الحياة داخل هذا المكان الضيق؟
عندما يصل أى مسجون إلى طره يقومون بتسليمه بطانية صوف خفيفة ينام عليها ويتغطى بها فى ذات الوقت وعليه أن يكيف نفسه فى برد الشتاء القارص لأنه ليس مسموح بالمزيد من الأغطية تحت أى ظروف .. لكن من محبة ربنا لى جعلتهم يسمحون لى بأخذ بطانية كانت قد أحضرتها المدام لى منذ كنت محتجزاً ثلاث أيام وقبل ترحيلى إلى طره .. لذا فكنت أنام على تلك البطانية الخفيفة وأتغطى بالأخرى مما سبب لى فيما بعد إنزلاق غضروفى نتيجة الرطوبة الشديدة وصعوبة فى المشى لأننى كنت أقضى ٢٢ ساعة داخل زنزانة محدودة المساحة لا مجال للحركة داخلها.. وتأثرت أيضاً عضلات الفم لدى من عدم الكلام فأصبحت أتلعثم فى الكلام وكان هذا واضحاً من اللقاء الذى ظهرت فيه على قناة ( سى تى فى ) فور خروجى من السجن .. ومن رحمة ربنا أيضاً أنه وضعنى بمفردى حتى لا أكون فى زنزانة واحدة مع المجرمين الذين ينامون فى مساحة أضيق مما أنام عليها ( برش عبارة عن شبر وقبضتين ) أى بالكاد ينامون على جنب واحد . فأشكر الله على عنايته بى وترتيبه العجيب .
 
كيف كنت تقضى يومك داخل الزنزانة؟
فى اللحظة الأولى لدخولى هذه الزنزانة ركعت على الأرض وشكرت الله وقلت له لتكن مشيئتك .. وكما قلت أننى كنت أقضى فى الزنزانة ٢٢ ساعة لا أتكلم فيهم مع بشر عدا ساعتين كل صباح كنت أخرج ولكنى كنت بمعزل عن المساجين الآخرين محاط بالحرس .. وكنا نتناول وجبتين فقط يومياً الفطار والغداء .. وكنت دائم القراءة فى الكتاب المقدس والقراءة فى الكتب الروحية التى كانت تحضرها لى المدام في كل زيارة والتى أضافت لى الكثير وكانت مصدر تعزية ومنها إزدادت معرفت بأشياء كثيرة لم أكن أعرفها .. كانت بحق تلك الفترة من حياتى أشبه بخلوة خاصة مع الله وفائدة روحية عظيمة .
كيف كان الضباط والمسؤلين يتعاملون معك داخل طره؟
كانوا يتعاملون معى بإحترام عدا البعض منهم من تعود على الغلظة ولكن بمرور الوقت أعطانى الله نعمة فى عيونهم جميعاً فصار الكل يتعامل معى بإحترام وإكتسبت صداقة الرتب العليا والضباط حتى أنهم إلى الآن يتصلون بى ويهنئوننى بالأعياد
هل كانوا يسمحون لأسرتك بزيارتك؟
نعم كان ميعاد الزيارة مرة كل ١٥ يوم ومدة الزيارة ساعة ونصف تقتطع من مدة الساعتين التى أخرجها كل يوم لتغيير جو وتتم فى مكتب المأمور .. وبالمناسبة فى طريقى للزيارة كنت أقابل أحمد الريان و نبيل نعيم القيادى للجماعات الإسلامية وكان له وضعه ومكانته سواء بين المساجين أو الضباط حيث كانت له حرية الحركة وكانوا فى البداية متحفظين فى معاملتى لكن بعد ذلك صرنا أصدقاء وعندما خرج نبيل من السجن أتصل بى ليسلم على .
هل زارك أحد من الأساقفة أو الكهنة؟
 
طبعاً زارنى الأنبا بيشوى والأنبا ثيؤديسيوس والأنبا مارتيروس والأنبا متاؤس وتباركت بزيارة الأنبا دوماديوس مطران الجيزة رغم ظروفه الصحية الصعبة قبل نياحته .. وكانوا يعزونى بكلمات النعمة ويبلغونى بسؤال البابا الدائم عنى وإهتمامه بمعرفة أخباري أول بأول .. وكان يزورنى بعض الكهنة لكنهم كانوا يأخذون تصريح من أمن الدولة أولاً قبل الزيارة .
 
حقا كان محسن السكرى قاتل سوزان تميم يتحدث معك و يأكل من يدك؟
محسن السكرى كان فى الزنزانة المجاورة لى وكنت عندما أخرج فى الصباح أراه وأتكلم معه تحت مراقبة الضباط وكنت أهون عليه الأيام فصار صديقاً لى .. وعندما صدر الحكم بإعدامه ألبسوه البدلة الحمراء وكان مسلسلاً من يديه وقدميه ولا يستطيع أن يأكل فكانوا يحضرون له الطعام من خارج السجن خوفاً عليه من أكل السجن ومن قد يدس له السم بداخله .. فكنت أطعمه بيدى لأنه كان لا يستطيع إطعام نفسه وكان رئيس مباحث السجون اللواء محمد البطران يقول أنه يطمئن على محسن فى وجودى .
هل كنت تعرف أخبار الدنيا وأنت داخل السجن عندما قامت الثورة وماذا كان شعورك ؟ وهل سمعت عن مظاهرة ماسبيرو الأولى وأنها طالبت بالإفراج عنك؟
 
كانوا يسمحون لنا بقراءة الجرائد فكنت أقرأ جريدة المصرى اليوم ومنها كنت أعرف ماذا يجرى .. وعلمت بقيام ثورة يناير وسعدت بقيامها وكنت أقول أن هذا شغل ربنا وترتيب إلهى عجيب وعظيم .. وعرفت من زوجتى عن مظاهرة ماسبيرو وخروج الأقباط من قوقعتهم بهذه الطريقة الجريئة التى عبرت عن آلامهم وأحلامهم ومطالبهم ومن ضمنها الإفراج عنى كان لكل هذا أعمق الأثر فى نفسى وأشكرهم كثيراً على محبتهم الكبيرة لشخصى الضعيف .
ماذا كان شعورك عندما سمعت بقرار الإفراج عنك ؟ وما هى آخر تطورات القضية؟
كنت سعيداً أننى سأعود مرة أخرى لكنيستى وشعبى وخدمتى .. وكنت أثق أنه كما وضعنى الله فى هذه التجربة الصعبة فهو أيضاً الذى سينشلنى منها فالله دائماً لابد أن يتمم عملاً قد بدأه ولا يتركه منقوصاً أبداً .. بالنسبة للقضية فقد كان الإفراج مؤقت أو وقف مؤقت للعقوبة لحين تحديد جلسة لقبول الطعن المقدم الذى تقدم به الأستاذ رمسيس النجار المحامى وقد تم قبوله فى شهر نوفمبر ٢٠١١ .. ولكن لم تحدد جلسة لإعادة المحاكمة بعد فإما أن تقلل العقوبة أو يحكم القاضى بنفس العقوبة .. ربنا يدبر الأمر حسب مشيئته .
 
هل قمت بزيارة قداسة البابا شنودة بعد خروجك من السجن ؟ وكيف كانت المقابلة؟
نعم ذهبت لزيارة قداسة البابا أنا والأسرة ولكن بعد فترة من خروجى لأنى كنت متعب وكما ذكرت أصبت بإنزلاق غضروفى شديد لازلت أعانى منه إلى الآن .. وكان لقاءً أبوياً جميلاً سعدت به جداً رحب فيه قداسة البابا بى وكان يربت على كتفى ويقول لى فى تواضع شديد أنا أخذت بركتك يا أبونا فكنت أقول له أنا اللى أخدت البركة يا سيدنا .. وحكيت له عما حدث معى فى محبسى فكان يستمع إلى بإهتمام بالغ وأبوة حانية .
 
كيف إستقبلت خبر مذبحة ماسبيرو وكيف قرأت أحداثها؟
كانت من أبشع الأخبار التى سمعتها وبقدر ما حزنت على أبنائنا الشهداء بقدر ما أنا سعيد بشجاعتهم وفخور بأنهم نالوا إكليل الشهادة وهو يطالبون بحقوقهم الضائعة .. وفى رأيى أن مذبحة ماسبيرو كانت رسالة من تحالف المجلس العسكرى والإخوان لشباب الثورة أنفسهم والليبراليين والمستنيرين الذين يطالبون بقيام دولة مدنية .. فى مذبحة ماسبيرو طبقوا المثل الشعبى الذى يقول أضرب المربوط يخاف السايب .. فكان الأقباط هم كبش الفدا كالعادة .
 
هل تعتقد أنه كان ينبغى للأقباط أن يتظاهروا ويطالبوا بحقوقهم أم لا ؟
خروج الأقباط للتظاهر يعد ظاهرة صحية وإيجابية .. كان لابد للأقباط أن يتظاهروا فقد فاض الكيل بهم ولو لم يتخذوا هذه الخطوة الجريئة بخروجهم من قوقعتهم للتعبير عن غضبهم ورفضهم للظلم كان الحال سيكون أسوأ من ذلك .. فالله يحثنا أن نكون إيجابيين ونطالب بحقوقنا ولا ينبغي لنا أن نلقى بالعبء كله على الكنيسة .. فالكنيسة دورها روحى ورعوى فقط وعليها ضغوط كثيرة جداً وفى موقف صعب .. وطالما كان النظام يضغط عليها لكى تسيس أمور الأقباط ويستخدمها لتهدئة لتهدئتهم .. لأنه يعرف بأن الأقباط قوة مؤثرة فى المجتمع ووحش إذا خرج من سكونه فلن يدخل مرة أخرى ولن يستطيع أحد الوقوف أمامه .
 
هل تعتقدأن هناك إضطهاد منظم وممنهج ضد الأقباط؟
لا أعتقد أن هناك إضطهاد ممنهج ضد الأقباط ولكنى أستطيع أن أقول أن النظام هو من أوصلنا إلى هذه الحالة بأن زرع البغضة والكراهية فى نفوس أخواتنا المسلمين وأستطاع أن يقنعهم بمواقفه المتعصبة والغير عادلة فى قضايانا وحقوقنا بأننا أقل منهم وطنية أقل منهم كفاءة أقل منهم فى كل شيئ ولا نستحق أن نتساوى بهم .. لإلهائهم عما يرتكبه النظام من فساد فى حق هذا الوطن .. فبدأت النفوس الضعيفة من أخواتنا المسلمين تتصرف بعدوانية ووحشية وهى تثق أنه لن يحاسبها أحد فدم القبطى ليس له ثمن .. وبدأوا يقصوا الأقباط من المناصب العليا والمخابرات وغيرها من الوظائف المرموقة 
كيف ترى الأحداث الحالية وما تتعرض له مصر من حوادث يندى لها الجبين ؟ وما رأيك فى سيطرة الإخوان والسلفيين على مجلس الشعب؟
 
أنا أثق وأرى أن كله للخير وما يحدث هو حكمة إلهية سنعرفها فى الوقت المناسب .. ودائماً ما كان الإخوان والسلفيين يحاربون بشتى الطرق على هذا المنصب وقد نجحوا فى الحصول عليه بأساليبهم المعهودة .. أتركوهم يثبتوا لنا ما إذا كانوا يستطيعون أن يحلو مشاكل الشعب ويعطوهم حقوقهم ويقيموا العدل والمساواة كما يدعون أم لا .. وإلا إذا حنثوا بوعودهم ولم يستطيعوا القيام بما إدعوه سيطيح بهم الشعب مرة أخرى ويعودوا من حيث أتوا .
ما هو الحل من وجهة نظرك للخروج من هذه المشاكل التى تحيط بوطننا مصر ؟ وهل توافق على العصيان المدنى؟
بالنسبة للأقباط : أنصحهم بأن يستمروا فى المطالبة بحقوقهم والإتجاه لمؤسسات الدولة وليس للكنيسة فالكنيسة للصلاة فقط
بالنسبة للشعب المصرى : يستمر فى ثوراته أيضاً بدون خوف حتى يحصل على حقوقه كاملة ولا أتفق مع العصيان المدني .. ألا تؤدى الثورة نفس الدور وأكثر لماذا العصيان وتعطيل الحياة ووقف عجلة الإنتاج !!!