بقلم: أمجد خيري
أثناء عملي في مستشفي "جايز" في لندن في التسعينات، كنت أسمع الأطباء الانجليز يقولون أن الطب في انجلترا متخلف ٥٠ عاماً عن نظيره في أمريكا وكانت لديهم الكثير من التحفظات حول النظام الصحي برمته، فمثلاً كانوا يقولون أن المواطن الإنجليزي يسجل اسمه –وعائلته– عند الممارس العام G.P الموجود في المنطقة التي يعيشون فيها ولكن إذا انتقل المواطن من مكان إلى مكان فمثلاً من لندن إلى برمنجهام –فعليه تسجيل اسمه وبياناته من جديد لدى أقرب ممارس عام لإقامته الجديدة.
بينما في بلاد أخرى مثل السويد فإن المواطن يسجل اسمه وبياناته مرة واحده فقط في حياته ومهما ينتقل داخل السويد من بلد إلى بلد فلن يحتاج للتسجيل مرة أخرى نظراً لوجود شبكة معلومات تغطي السويد بأكملها (أشبه بالرقم القومي مثلاًَ) وطبعاً كان الأطباء الإنجليز يقولون أن مستوى الخدمة الطبية في انجلترا متدني جداً مقارنة بأماكن أخرى في العالم، طبعاً كنت أسمع هذا الكلام ولا أعلق ولا أفتح فمي لأن الخدمة التي أراها هناك كانت تعتبر بالنسبة لي خدمة خمس نجوم مقارنة مما أعرفه عن الطب في مصر يكفي معاملة المريض –أو المواطن عموماً– بإنسانية.
فكل شيء في الحياة نسبي "والكحكة في أيد اليتيم عجبه" وحينما عدت إلى مصر في نهاية التسعينات كنت أسأل نفسي سؤالاً مهماً وهو: إذا كانت إنجلترا متخلفة عن أمريكا خمسين عاماً -من وجهة نظر الإنجليز أنفسهم– فكم يكون تخلفنا نحن في مصر عن أمريكا؟
وبمرور الوقت اكتشفت أننا لسنا متخلفين عن أمريكا خمسين أو مائة أو مائتين عام ولكننا أشبه بقطارين يمشيان عكس بعضهما أي أننا نتباعد أكثر فأكثر من التقدم والتحديث والتحضر الذي تعيش فيه المجتمعات الغربية، فهم يمشون قدماً إلى الحداثة والتطوير والإبداع والابتكارات والاختراعات بينما نرتد نحن وبسرعة الصاروخ إلى العصور الوسطى حيث البداوة والجدب وندرة العلم ومعيشة أهل الكهف.
والفرق بين منطق الإبداع الذي يعيش فيه الغرب ومنطق الجمود والنكوص الذي نعيشه هو أن الإبداع رؤية مستقبلية تنظر دائماً إلى الأمام وكيفيه تطوير كل مناحي الحياة وكيفية التغبير لوضع أفضل بطريقة ديناميكية لا تهدأ ولا تمل ولا يكون لها سقف لطموحاتها بينما حالة الجمود التي نعيش فيها في الشرق هي رؤية ماضوية لا تتحدث إلا عن السلف الصالح ولا تريد أن تتحرك ولو قيد أنمله عن الوضع القائم بل وتحارب أي فكر جديد يحاول تجديد هذا الميراث المتحجر المتعفن المتعطن.
الإبداع –عندهم– له ناتج حضاري يمكن الاستفادة منه، فمثلاً حينما اكتشف أحمد زويل الفيمتو ثانية سأل الناس عندنا عن فائدة هذا الاكتشاف والآن بدأت تظهر تطبيقات الفيمتو ثانية في مجالات علمية كثيرة أذكر منها –فقط على سبيل المثال لا الحصر– جراحات القرنية.
إن معيار تقدم الشعوب لم يعد يقاس بثرواتها المائية أو البترولية أو ما شابه ذلك وإنما يقاس بعدد براءات الاختراعات التي تسجلها هذه الدول سنوياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر اليابان سجلت ٣٠٠.٠٠٠ براءة اختراع، أمريكا ٩٠.٠٠٠، ألمانيا ٤٠.٠٠٠ وهكذا.....
في الغرب يبدعون لأنهم يستخدمون الأسلوب العقلاني في التفكير والعقلانية rationalism هي موقف فكري وسلوكي تجاه الحياة الاجتماعية والمعرفة وقضايا العلوم التطبيقية تعتبر العقل هو القيمة العليا في الحياة ومعيار كل شيء ومصدر التوجيه في الحياة وأننا كأفراد يجب أن يحكمنا نظام عقلي يقوم على المبادئ والسمات والقوانين التي تتفق عليها كل العقول السليمة.
أما في بلادنا فنحن أبعد ما نكون عن إعمال العقل فنحن نستخدم التفكير الأسطوري الخرافي أحياناً والدوجماتيكي أحياناً أخرى والشعار المرفوع هو "لا تجادل ولا تناقش يا أخي" المبدعون في الغرب يتحدثون عن قيم إنسانية عالمية مثل الحرية والعدالة والمساواة بينما يستميت الأصوليون والسلفيون لدينا لمنع هذه القيم من الاقتراب إلى شرقنا الأوسط التعيس بحجج واهية مثل الخصوصية الثقافية، الثوابت التاريخية، الحقائق الجغرافية، القومية العربية.... وغيرها من الفزاعات التي يطلقونها ليل نهار بطريقة بغبغانية كلما أحسوا أن خطر التغير القادم سيحطم ثوابتهم المتحجرة المتعفنة العطنة وسيلقى بهم وبثوابتهم هذه إلى متحف التاريخ. السلفيون في حالة بارانويا يسقطون كل مشاكلهم أو فشلهم –أو فشل أوطانهم– على الغرب ونظرية المؤامرة جاهزة لأي مشكلة يقعون فيها (فلو طفحت المجاري -مثلاً– في أي شارع من شوارع المحروسة "وما أكثر حدوث هذا" فإن الفاعل معروف مسبقاً إما أمريكا أو إسرائيل وقيس على هذا).....
أن إسقاط مشاكلنا على الآخرين واعتبارنا أننا دائما ضحية تأمر الغرب علينا هو من أهم الأسباب التي أدت أن تكون "بؤرة الضبط أو الانضباط أو التحكم" Locus of control الخاصة بالإنسان العربي خارجية External  أي خارج ذاته بينما هي لدى الإنسان الغربي داخلية (internal) أي بين ثنايا ذاته ومعنى هذا أن الإنسان العربي غير مسئول عن أي شيء يحدث له فإن فشل دراسياً فلأنه محسود من فلان أو علان... وإن لم يحد عملاً يعمل به فلأنه معمول له عمل من زفتان أو ترتان!!
إن فشل المواطن العربي في العلاقة الجنسية فلأنه مربوط بجني ولكي ما نفك هذا الربط لابد من معرفة نوع هذا الجني، فالجني أشكال وأنواع فهل هو شمهورش الشام أم ميمون الكناوى أو عائشة قنديشة؟ أم هل هو "النداهة" التي تسيطر على عقل الفلاح العربي وتأخذه من عمله وأهله وزوجته؟!!
وقيس على هذا من الخرافات والخزعبلات والأساطير التي تعشعش في عقول مواطنينا والتي تتحكم في سلوكهم وتصرفاتهم اليومية.  
في بلاد الغرب يحثون الناس على أعمال العقل وبمنتهى القوة ويخترعون أساليب أشكال وألوان مثل العصف الذهني أو القدح الذهني (Brain storming) لمحاولة إخراج أكبر قدر من الأفكار بينما يعمل القائمون على شئون العباد في منطقتنا التعيسة على منع الناس من أعمال عقولهم البتة والاستفتاء عن أي شيء يقومون به ممن هم أعلى منهم خبرة أو مكانه ويرفعون شعارات غريبة مثل "حطها على رقبة عالم... تصبح سالم"... أي ضع مشكلتك أو سؤالك أو استفسارك على مسئولية عالم (المقصود بها رجل دين) ولا تفكر مطلقاً وفقط نفذ ما يقولون لك فهم أعلم لك من نفسك!! ولهذا فليس غريباً أن يبث في قنواتنا التليفزيونية عشرات من برامج الفتوى في الدين حتى أصبح الإنسان العربي يسأل عن كل شيء وأي شيء كيفية الأكل والشرب، كيفية العلاقة الجنسية، حتى قضاء الحاجة أصبح له ميكانزم "Mechanism" يجب إتباعه وإلا فجنهم وبئس المصير!!
إن العقل هو أكبر ميزة أعطاها الله للإنسان وإعماله لا يجب أن يكون حكراً على أحد بل هو منحة مجانية من الله، أني هنا أتذكر مقوله الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في عصر التنوير "أنه بدون إعمال العقل سوف يتعذر على المسلمين إحراز أي تقدم أو تطور" ويمكنني أن أضيف على هذا القول ببساطة "أن بدون أعمال العقل سوف يتعذر على المسلمين والمسيحيين والهندوس والكنفوشوسيين... وغيرهم إحراز أي تقدم أو تطور"، ومحمد عبده كان يقول: "إن سر تفوق أوروبا يكمن في تفوقها في مضمار البحث العلمي وإلى تقدم نظم التعليم فيها".
وللأسف فإن المتعصبين الماضوويين الظلاميين السلفيين –في ذلك الوقت– حاربوه بكل الوسائل والطرق حفاظاً على جمودهم وتخلفهم وقاموا بإصدار كتيبات ضده تتناوله بألفاظ بذيئة على أغلفتها مثل "الشيخ المهياص الهجاص" "وكشف الأستار في ترجمة الشيخ الفشار".
هؤلاء الظلاميون وصفهم الشيخ على عبد الرازق بأن واحداً منهم فقط يكفي لإظلام مدينة عظيمة مثل باريس عاصمة النور، وعلى ذكر باريس فإن الشيخ رفاعة الطهطاوي لم يكن يستطيع أن يخفي إعجابه منها فقال واصفاً إياها؟
أيوجد مثل باريس ديار شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح، أما هذا وحقكم غريب؟
وطبعاً لم يكن الرجل يدعو الناس إلى ليل الكفر الذي ليس له صباح وإنما إلى شموس العلم التي لا تغيب.
لقد تقدم الغرب بعلومه وتقنياته الحديثة بينما عدنا نحن إلى الوراء مئات السنين حتى أننا ونحن في القرن الحادي والعشرين أصبحنا نتحسر على عصر التنوير في بداية القرن العشرين ونتحسر على رجالاته مثل أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وسلامة موسى ومحمد عبده وعلى عبد الرازق، وغيرهم.
أن الأمل الوحيد الآن لنهضة مصر هو في وجود نخبة مثقفه مخلصه بحق لهذه البلد ومستعدة أن تتحمل بشجاعة وبسالة حرب الظلاميين ضدهم، مستعدة أن تدفع الثمن سواء كان سمعتها أو حريتها أو حتى حياتها في سبيل أن يسعد أبنائهم وأحفادهم بوطن كريم وتعليم راقي وحياة إنسانية متحضرة تعلو فيها القيم الإنسانية العالمية مثل الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
أنني أرجو القارئ الكريم إلا يمل من تكراري أبيات شعر حافظ إبراهيم
إن يا شعر أن تفك قيوداً
قيدتنا بها دعاه المحال
فارفعوا هذه الكمائم عنا
ودعونا نشم ريح الشمال
هذه القيود التي يتكلم عنها حافظ إبراهيم ما هي إلى خدعة التمسك بالماضي والقوالب الجامدة والهياكل الفاقدة الروح.
إن إرادة الحياة هي بلا شك أقوى من كل قيود الظلاميين السلفيين، إرادة الحياة والخير والتقدم والرفاهية سوف تنتصر ولا محالة على قيود وسلاسل الظلام والجهل والتخلف والطبقية، إرادة الحياة هذه قال عنها الشاعر أبو القاسم الشابي
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
أنني أدعو المصريين الشرفاء المخلصين لبلدهم بألا يسكنوا في وأدى اليأس (كما قال مارتن لوثر كينج)، فالحرية قادمة لا محالة ومها طال ليلنا الحالك الظلام فأن نور الفجر قادم، بل بالعكس كلما زاد اسوداد الليل وكحله كلما كان هذا مؤشراً على اقتراب نور الفجر وإنّا لهذا الفجر القادم لمنتظرون.
amgad_khiry@hotmail.com