بقلم: عماد توماس

رغم الصورة المثالية الحضارية التي كانت عليها مصر خلال أيام الثورة ال 18، فلم يحدث اعتداء طائفي على كنيسة أو اعتداءات على مواطنين بسبب الهوية الدينية، وما شاهدناه في ميدان "التحرير" من تماسك الصف الوطني، فرأينا مواطنين مسلمين يؤدون الصلاة وسط حماية من المواطنين المسيحيين، وشاهدنا صلاة للمسيحيين وسط الميدان وسط حضور وتأمين من شركائهم في الوطن من المسلمين.
إلا أن هذه الصورة الوردية سرعان ما انتهت بعدما جاءتنا الأخبار من قرية "صول" بأطفيح بحرق وهدم السلفيين لكنيسة "صول" ثم إحراق مسكن المواطن "أيمن أنور ديمتري" وقطع أذنه في قنا، والاشتباكات مع بعض المسيحيين بمنشية ناصر بالمقطم، وقتل وإصابة عدد منهم والاعتداء على مسيحي في مدينة أبو المطامير التابعة لمحافظة البحيرة، وحرق محله إثر اتهامه بمعاكسة فتاة جارته، وتم احتواء الأوضاع بعقد جلسة صلح، حكم فيها بتغريم أسرة الشاب بـ 100 ألف جنيهًا ومغادرة المدينة. وقيام مجموعة من البلطجية بترويع المواطنين الأقباط في قريتي البدرمان ونزلة البدرمان بمحافظة المنيا، وفرض الإتاوات عليهم والاستيلاء على أراضيهم. ومحاصرة كنيسة ماريوحنا بقرية القمادير بسمالوط والمطالبة بإغلاقها، ثم مظاهرات بعض من أهالي محافظة "قنا" ضد تعيين اللواء "عماد شحاتة" محافظا بسبب ديانته المسيحية.
بالإضافة إلى إحراق بيوت البهائيين في قرية الشورانية بسوهاج، والاعتداء على الأضرحة والمقامات الصوفية بمدينة قليوب والفيوم.

وماذا عن قطع الطرق الرئيسية وتعطيل مرفق حيوي مثل السكك الحديدية في "قنا"، وماذا يقول علينا العالم المتحضر عندما يرى آلاف المتظاهرين خرجوا عن بكرة أبيهم من أجل عدم تعيين محافظ جديد، كل جريمته أنه "مسيحي" الديانة!!، ولعلهم لم يعرفوه ولم يروه من قبل؟
وماذا عن رفع علم دولة أجنبية على أرض مصرية نكاية في مواطنين آخرين؟ أين سيادة القانون التي رأيناها تطبق على المواطنين المسيحيين في منشية ناصر، عندما قطعوا طريق الأوتستراد؟ فكان الرد قاسيًا نتج عنه عدد من القتلى والمصابين.
لا أميل لنظرية المؤامرة، في كون مظاهرات "قنا" وراءها بعض من أعضاء الحزب الوطني، ورجال متعاونين قديمًا مع أمن الدولة، فالتعصب والطائفية قد استشرت في مجتمعات يغلب عليها الفقر والجهل، فالآلاف الذين خرجوا تم حشو أدمغتهم بكراهية الأخر المغاير، من خلال خطاب ديني يرى نفسه "الحق" المطلق وما سواه "باطل".

تؤكد لنا هذه الأحداث أن الثورة لم ولن تُنهِ التعصب والعنف الطائفي، الذي يحتاج إلى مزيد من الجهد والعمل على مستوى القاعدة، والنزول بخطاب ثقافي جديد يفهمه البسطاء من شعبنا.
فهل بات الشعب لا يستمع إلا للشيخ "محمد حسان" حتى يعجز القائمون على القانون بتطبيق سيادة القانون على مواطنين أجرموا في هدم وحرق دور عبادة؟
وهل هناك أفشل من الاستمرار في عقد الجلسات العرفية القميئة بمباركة المجلس العسكري، لمصالحة صورية تحت الإكراه للمواطن المسيحي الذي تم حرقه منزله وقطع أذنه؟
حتى أننا حتى الآن لم نسمع -ويبدو أننا لن نسمع- عن محاكمة الذين تسببوا في جريمة "صول" وجريمة "قنا"؟ وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تكرار هذه الأفعال، مادام الجناة أفلتوا من العقاب ويعرفون أنهم لن يعاقبوا.


الجلسات العرفية لا تنفي حق المجتمع في محاسبة الجناة، الذين أرجموا وروعوا المجتمع بأفعالهم، ولا يعني تنازل المجني عليهم الدعاوى العمومية، فسيادة القانون يجب أن تأخذ مجراها، حتى ينال المخطئ عقابًا لجرائمه.

كل هذه الأفعال، جعلت بعض من المواطنين الشرفاء من مجموعة "مصريون ضد التمييز الديني"، وعدد من منظمات المجتمع المدني، وأغلبهم من المواطنين المسلمين، قدموا رسالة في الأسبوع الماضي، إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحكم مسئوليته في الحفاظ على وحدة هذا البلد وأمنه واستقراره، في اتخاذ الإجراءات العاجلة لمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم ومعظمهم معروف بالاسم، فالحزم في تطبيق القوانين المعمول بها في البلاد دون أي استثناءات، هو الضمان الوحيد لسيادة القانون واستعادة هيبة الدولة.
حسنًا فعلت القوات المسلحة بإعادة بناء كنيسة قرية "صول"، وتسليمها في وقت قياسي للمسيحيين ليقيموا شعائرهم الدينية، ولكن قبل بناء الكنائس يجب بناء العقول، والعمل على تصفية النفوس والقلوب من الكراهية والطائفية التي إذا أردت أن تهدم أمة، فسلاح الطائفية وشق الصف الوطني هو أفضل الخيارات لذلك.

مازلنا نؤكد على أهمية دور الإعلام في المسالة الطائفية، فقنوات بث الفتنة تشعل البلاد، وتلفزيون الدولة الرسمي "يهون" من الأحداث، والجهل بالآخر وعدم معرفته يُسبب نوعًا من الغموض الذي يؤدى إلى الانعزال والكراهية.
والخطاب الديني الذي يحض على الكراهية، والذي استشرى من دعاة غزوة "الصناديق المؤمنة"، ودفع "الجزية" وإقامة "الحدود" يُحتم على أن يقوم "الأزهر" بدوره الوسطى الذي غاب عن المشهد، وافتقدناه منذ أحداث الثورة.

ويعوزني الوقت للحديث عن المناهج التعليمية التي تحتاج إلى تنقية وتطوير، وحذف كل ما يسئ إلى شركاء الوطن.

أخيرًا نقول: الطريق إلى المواطنة الحقيقة، لتنتقل من حيز المادة الأولى النظرية في الإعلان الدستوري إلى تطبيق عملي وحقيقي، مازال طويلاً ويحتاج إلى جهد كبير من العقلاء والمستنيرين في هذه الأمة العظيمة.