بقلم: هند مختار
كانت "مصر" وحتى وقت قريب تستوعب جميع الثقافات والجنسيات، وكانت لدى الثقافة المصرية والمجتمع المصري القوة على جذب هذه الثقافات لتنصهر فيها. وهذه القوة الجاذبة كان مبعثها تقافة التسامح، والقدرة غير الطبيعية على التعايش مع الغير وفهم إختلافه،  وكان من نتاج ذلك أن استفاد المجتمع المصري من هذه الثقافات بإثراءه في شتى المجالات مع إضفاء الطابع المصري المميز..
 
من الجنسيات التي جاءت إلى المجتمع المصري لتعيش فيه وتنعم بثقافة التسامح وروح المحبة كان الأرمن، وكانت معظم العائلات الأرمينية التي جاءت لـ"مصر" في مطلع القرن التاسع عشر فارَّة من المذابح التي نشأت نتيجة الحرب التي دارت بين الدولة العثمانية وروسيا، والتي انضم فيها العديد من الأرمن للجانب الروسي حتى يحصلوا على إستقلالهم..
ولقد استطاع هؤلاء المهاجرون- بفضل سماحة المجتمع المصري آنذاك- أن يتولوا العديد من المناصب السياسية، ونذكر منهم "نوبار باشا"، الذي تقلّد وزارة المالية ثم أصبح رئيسًا للوزراء، و"باغوص باشا"، وغيرهم.. 
 
على إننا لا ننسى أن الأرمن عمومًا هم أصحاب فن، فهم من أدخلوا الفن في الأستانة، وقدموه للمجتمع التركي. وأيضا قام حكام مصر- "سعيد" و"إسناعيل" و"توفيق"- بإحضار الموسيقيين الأرمن المشهورين للعزف في القصور، فكان منهم "ألكسان الطمبوري" عازف الطمبور، و"تشيو هاجيان" الذي وضع الألحان التي تعزفها الموسيقى الديوية، وأيضا "نيظان أمين بوزاري" أشهر عازفي الناي في "مصر" منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى وفاته سنة 1935..
 
وقد ساهمو في النهضة المسرحية بـ"مصر" بكل اللغات الإيطالية والفرنسية وحتى العربية..
 
أردت بهذه المقدمة أن ألقي نظرة على أوضاع الأرمن في "مصر"، وعلى أحوال المجتمع المصري بصفة عامة، ومدى قبوله للآخر؛ حتى أن هذا الآخر ينسى تمامًا جذوره، ولا يعتبر نفسه إلا مصريًا..
وهذا هو حال فنانة اليوم "نيللي"، والتي كانت من لوازم شهر رمضان، فإذا كنا نقول أن رمضان هو الياميش، وعصير قمر الدين، وحديث "الشعراوي"، وإبتهالات "النقشبندي"، والأذان بصوت السماء "محمد رفعت"؛ فمن لوازم رمضان أيضًا كانت فوازير "نيللي"..
 
فن الفوازير في "مصر" كان قديمًا منذ نشأة التلفزيون على يد المخرج "محمد سالم"، وثلاثي أضواء المسرح. إلا أن "نيللي" والمخرج "فهمي عبد الحميد" خلّدوا هذا الفن بأسمائهم حتى أصبحا علامة مسجلة للفوازير..
 
"نيللي أرتين كاليغان سركسيان"، أو "نيللي" فقط- كما تحب- من مواليد 13 يناير سنة 1950  من عائلة فنية جدًا؛ فهي شقيقة الطفلة المعجزة "فيروز"- صاحبة أفلام "ياسمين" و"دهب" مع الرائع الذي لن يتكرر "أنور وجدي".
هن كن ثلاث شقيقات: "ميرفت" و"فيروز" و"نيللي"، وكان هناك شقيقان من الذكور توفيا سريعًا..
أدخل الأبوان بناتهما الثلاث مدرسة إيطالية متخصصة في تعليم الفتيات البالية، وكان اسمها مدرسة "لورا لوريلا" على اسم صاحبتها، وكانت مدرِّبة الرقص سيدة فرنسية..
 
كانت مدارس البالية منتشرة جدًا في "القاهرة"، خاصةً قبل الثورة، وقبل إنشاء أكاديمية الفنون بـ"القاهرة"..
 
تعتبر "نيللي" نفسها مصرية أبًا عن جد، فكل جدودها الذين تعرفهم وأهلها مولودين بـ"مصر"، ولقد رأى والدها بفطرته السليمة أن ابنته "فيروز" دائمة الحركة، وتفعل أشياء (جننت الكل) على حد تعبيرها، فأدخل الفتيات الثلاث مدرسة البالية،  وتعلموا الرقص والصولفيج (السلم الموسيقي).
 
وتعتبر "فيروز" نفسها من عائلة فنية؛ فوالدها قد راعى مواهب بناته الثلاث. هذا بالإضافة إلى أن الأم كانت تتمتع بصوت جميل، ولكنها كانت مكتفية بالغناء في الكنيسة فقط، حتى رحيلها في عام 2007. 
 
ولقد قام والدهم بإنتاج فيلم "عصافير الجنة" لبناته الثلاث، وتقول "نيللي": إن والدها قد أنتج هذا الفيلم من أجل "فيروز" أختها وليس من أجلها، وكان قد أنتج قبلها فيلم "الحرمان" ليكشف عن مواهب ابنته الكبرى..
 
ولقد توقفت أختها "ميرفت" سريعًا؛ لأنها لم تكن تمتلك موهبة "فيروز"، أما "فيروز" فقد قدّمت كل شيء وهي صغيرة، وكان الجمهور يتوقع منها أكثر، لكنها كانت قد أعطت كل شيء فلم  يكن عندها ما تقدّمه وهذا الكلام على لسان "نيللي"..
تنقسم مراحل التمثيل في حياة "نيللي" إلى ثلاثة مراحل، وهي الطفولة، والمراهقة، ومرحلة الشباب والنضج..
فمرحلة الطفولة كانت قد قدمت فيها أفلامًا هامة، مثل "عصافير الجنة"، وحتى نلتقي مع "فاتن حمامة"، و"رحمة من السماء" مع "هند رستم"، و"عماد حمدي"، و"فيلم توبة" مع "عماد حمدي" أيضًا، و"صباح". وبعد توقفها لمدة عامين، عادت مرة أخرى، وقد مثّلت في التلفزيون لأول مرة مسلسل بعنوان "الرمال الناعمة" إخراج "نور الدمرداش"..
 
 ومن العجيب إنها في تلك السن قد اشتركت هي وأختها "فيروز" في بروفة أول فوازير لرمضان، ولكن الفكرة لم تنجح وقتها، ولكنها نجحت بعد ذلك بسنوات عديدة نجاحًا باهرًا.
 
توقفت "نيللي" مرة ثانية، وعادت مراهقة في سن الخامسة عشر، وكأنها تبدأ من جديد في أدوار لا تُذكر، حتى جاء عام 1966  بنقلة فنية كبيرة، حينما عاد "محمود ذو الفقار" لإختيارها لأفلامه، وكان الفلمين هما "المراهقة الصغيرة" و"نورا"، ثم بعد ذلك قدمت فلمي "أجازة صيف" و"بيت الطالبات".
 
أما أهم نقلة في حياتها الفنية، والتي جعلتها ملء السمع، فكانت قبل الفوازير، حينما إختارها المخرج "محمد علوان" لتقوم بدور البطولة أمام الموسيقار "محمد عبد الوهاب" في مسلسل "شيء من العذاب" عن قصة لـ"أحمد رجب"، وكان اسمها لا يُذاع في تتر المسلسل، وتسائل الجمهور من هذه الفتاة، وبعدها قالوا على التتر: الوجه الجديد "نيللي"...
وفي تلك الفترة، عملت مسرحيات مع فرقة "نجيب الريحاني"، وكانت أول مسرحياتها "أوعى تعكر دمك" عام 1966،
ثم بعد ذلك كانت تخطت مرحلة الشباب وقدمت أفلامًا مثل "أنا الدكتور"، و"الرجل الذي فقد ظله"، و"مجرم تحت الإختبار"، وفيلم "اللص الظريف" إنتاج سوري مصري من بطولة "دريد لحام".
ثم قدمت أفلامًا أخرى مثل: "الدلوعة" عن مسرحية لـ"الريحاني" قام بالبطولة أمامها "فريد شوقي"، وفيلم "صباح الخير يا زوجتى العزيزة" من أنضج أدوارها..وظلت تقدِّم بعد ذلك العديد من الأفلام تنوعت بين الأفلام الخفيفة، والميلودراما الزاعقة..حتى تأتي مرحلة الفوازير..
 
الفوازير في الأساس فن إذاعي كان الغرض منه إضفاء الحيوية على البرامج الإذاعية، وقد كانت البرامج التلفزيونية مقتبسة من البرامج الإذاعية في البداية..
 
ولقد قدمت "نيللي" الفوازير لمدة (13) سنة، وكل مرة كانت بفكرة مختلفة، وموضوع مختلف، وبتجدد وشباب لا ينتهي..
 
وكانت بدايتها مع الفوازير أن يتم تقديم كاريكاتير عبارة عن رسوم متحركة مع فنان اسمه "فهمي عبد الحميد"، وكانت المقدمة فقط هي الإستعراضية، ولقد نجحت، وأعجبتها الفكرة والعام التالي كان لها إقتراح أن تكون الفوازير كلها استعراضية،  وليس التتر فقط. وكان لها ما أرادت..
 
ولقد أهملت السينما لصالح الفوازير على حد قولها، وكان هذا قرارًا صائبًا منها، فهناك العشرات من نجمات السينما، ولكن هناك نجمة واحدة فقط للفوازير.."نيللي"..
ونجحت الفوازير نجاحًَا مدويًا، حتى أنها لم تعد فوازير رمضان بل فوازير "نيللي"، وكان يكتب لها الفوازير في تلك الفترة "لينين الرمللي"، حتى جاء يومًا "صلاح جاهين" ليقابل "حسن عفيفي" وسأله: "أنتم ليه مش بتطلبوني في الفوازير ده أنا بتاع الفوازير في الإذاعة مع "آمال فهمي"؟ وكان أن قدما فوازير عروستي، وأكمل ما قدمت فوازير الخاطبة..
 
توقفت "نيللي" عن الفوازير لفترة طويلة، ثم عادت مره أخرى ولكن بعد وفاة "فهمي عبد الحميد" الذي توفي قبل أن يكمل معها التجربة. وقررت أن تنسحب، ولكن "ممدوح الليثي"- رئيس قطاع الإنتاج وقتها- رفض وأسند المسئولية الإخراجية لـ"جمال عبد الحميد"، والذي قدّم الجديد ببعده عن الخدع والكروما والرسوم المتحركة. وكانت التجربة "عالم ورق" مع الشاعر "عبد السلام أمين"، وحققت النجاح الذي إعتادت عليه، ثم مع "محمد عبد النبي" فوازير "صندوق الدنيا"، و"أم العريف" ثم "الدنيا لعبة"..

من الناحية الإنسانية، ترفض "نيللى" أن تقدم أدوار الإغراء والمايوهات والقبل، وإنها إن كانت فعلت هذا في إحدى فترات حياتها، فهذا لأنها كانت صغيرة غير واعية، وتبرر هذا الرفض بزيادة مساحة خجلها مع التقدم في السن، ووعيها الكامل بمتطلبات المجتمع الشرقي الذي هي جزء منه...
في خلال فترة الفوازير كانت "نيللي" معلمًا من معالم رمضان بأصولها الأرمينية، وبديانتها المسيحية. شاركت الجميع بفنها ليالي شهر رمضان، أحبها الجميع أجيالاً وراء أجيال، ولا يزالوا يتذكروها..هل من الممكن أن يتكرر هذا في تلك الفترة؟ أم إننا في حاجة لزمن آخر وناس آخرين لنعد لما كنا نمتلكه من حضارة وفهم؟