بقلم: هند مختار
يتم تعريف التمثيل على إنه أحد فنون المحاكاة، فالفنان يحاكي ما يحدث داخل نفس الآخرين من مشاعر وإنفاعلات ويقدمها لك، ولكن أن يصل بك الجنون بالمحاكاة أن تحاكي إنفاعلات الموت حتى تموت فعلاً، فهذا لم يحدث إلا مرة واحدة فقط مع الشرير العظيم "محمود المليجي"..

يحكي المخرج "هاني لاشين" إنه أثناء قيامه بتصوير فيلم "أيوب"، دخل الفنان "محمود المليجي" إلى موقع التصوير، وطلب قهوته الصباحية، وأخذ يثرثر مع صديقه "عمر الشريف"، وفجأة قال لهم: غريب أمر الحياة فالإنسان ينام- وأطلق من فمه صوت شخير أضحك الجميع- ثم يصحو، ثم ينام ثم يصحو، ثم ينام. ووسط ضحك الجميع لم يستيقظ "محمود المليجي" مرة ثانية وإلى الأبد..

"محمود المليجي" من مواليد حي "المغربلين" في 22 ديسمبر سنة 1910،  وكان والده "حسين المليجي" من مشاهير "المغربلين"، وكان يتاجر بالخيول العربية الأصيلة والسيارات، وكان يهوى سماع الموسيقى والغناء، حتى أن ابنه "محمود" قرّر أن يحترف الغناء ولكنه فشل في ذلك، وحاول أيضًا أن يحترف الملاكمة، ولكنه بعد تلقيه اللكمة إثر الأخرى، قرر التوقف عن الملاكمة أيضًا...

إختار "محمود المليجي" أن يكمل دراسته في مدرسة "الخديوية"؛ بسبب أنها كانت مهتمة بالتمثيل من ضمن أنشطتها، وكان يأتي بها ليدرّب الممثلين، ويكتشف المواهب..الرائع "عزيز عيد"..

وكان الإختيار موفقًا من "محمود المليجي"، حيث أتى "عزيز عيد" لتدريب فريق التمثيل، ولكنه كان دائمًا ما ينهر "محمود المليجي"، ويخبره أنه لن يصلح ليكون ممثلاً أصلاً، وكان "محمود" يختفي خلف احدى الشجرات بالمدرسة ليبكي خلفها، ولكن أحد أصدقاءه أخبره أن "عزيز عيد" ينبأ له بمستقبل باهر في التمثيل، وأنه يقول له ذلك ليقتل الغرور داخله..

تحيرني جدًا الأيام الفائتة، فقد كان من يقوم بأي عمل يفني نفسه فيه، وفي البحث عن الموهوبين في هذا العمل؛ لضمه له مهما كان هذا المجال،وكان هذا ما فعلته "فاطمة رشدي"، فلقد حضرت عرض "مدرسة الخديوية"، ورأت الفتى "محمود المليجي" يمثل، وأُعجبت بما يفعل، وعرضت عليه العمل بفرقتها مقابل راتب أربع جنيهات في الشهر، ووافق وترك المدرسة لأنه لم يستطع أن يوفق بين المسرح والمدرسة فاختار المسرح..

"محمود المليجي" بعد ذلك تألق في المسرح، ولكنه ذهب للسينما ليقدم أدوار الشر، ولقد قدم "المليجي" أدوار الشر بألف وجه ووجه، ولقد استخدم "محمود المليجي" لغة الجسد في التمثيل، فتراه يستخدم يديه وجسده،ويستخدم حتى ساقيه في الأداء، ومسكة السيجارة بين أصابعة، كلها في خدمة الدور الذي يقدمه، محسوبًا بميزان حساس يختلف من دور لدور، وإن تشابهت الملامح لـ"محمود المليجي"...

أيضًا دور الشرير العاشق الذي يعشق هذه أو تلك، ويحاول أن يُحكم سيطرته عليها من فرط العشق، فتجد في نظرة الشر المخيفة، نظرة العاشق الولهان،  وكأنه يقول للحبيبة: إفهمي بقى...

أعاد الرائع دائمًا "يوسف شاهين" إكتشاف "المليجي" في فيلم الأرض، وقدّم أجمل الأدوار وأصعبها، والتي لن تتكرر مره أخرى، دور "محمد أبو سويلم"، فمن منا ينسى كلماته: (علشان كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة)، ومشهد تعذيبه بحلق شاربه، ونظرات الخزي في عينيه بعدها، ومشهد سحله على طين الأرض الطيبة، والذي رفض أن يؤديه أي دوبلير، وأراق دمه فعلاً على الأرض في مشهد خالد...

مثّل بعد ذلك في كل أفلام "يوسف شاهين" حتى وفاته (العصفور، وعودة الإبن الضال، وحدوته مصرية، والإختيار، وإسكندرية ليه) وقال عنه "شاهين": إنه كان يخشى من نظرة عينيه.

مالم يعرفه أحد عن "المليجي" أنه كان عضوًا في فرقة "إسماعيل ياسين"  المسرحية الكوميدية، والتي تم مسح تراث هذه الفرقة بأكملها من التلفزيون المصري؛ لتصوير إستقبالات الزعيم الخالد حينما يقابل الرؤساء، فغاب عنها بسبب هذا "محمود المليجي" الكوميدي.

وكعادة العشاق (عاشق للفن)، دخل "المليجي" مجال الإنتاج الفني؛ للإرتقاء بمستوى السينما من الأفلام الهابطة، بالإضافة لإكتشافه كثيرًا من كبار النجوم مثل "فريد شوقي"، الذي قدم معه أروع الثنائيات الفنية، و"تحية كاريوكا"، و"محسن سرحان"، وغيرهم..

تزوج من رفيقة دربه "علوية جميل"، الفنانة الرائعة هي الأخرى، وظل مخلصًا لها لأربعة وأربعين عامًا على الرغم من إنه تزوج من ممثلة في فرقة "إسماعيل ياسين" المسرحية اسمها "فوزية الأنصاري"، وفور علمها بعلته حدثته في التليفون قائلة: (محمود طلقها وتعالى)، ويُقال إنها هي من اتصلت بالفتاة في التليفون قائلة لها (على فكرة أنت طالق)..

"محمود المليجي" لم ينجب أولادًا، ولكنه أنجب أفلامًا، ومسرحيات، ومسلسلات، مثل "العنكبوت"، و"قال البحر"، و"أحلام الفتى الطائر" تاركًا هذه الأعمال تقول لنا أن السيرة أطول من العمر...