بقلم/ هند مختار
حينما يضحك الإنسان تنبسط أساريره، وتتحرك في وجهه عضلات أقل من التي تتحرك في حالة الحزن، وتنتظم ضربات قلبه، ويصفو ذهنه.. كل هذا ينتج عن الضحك..
ولكن الضحك غالي وصعب جدًا، فرسم البسمة على الوجوه ليس بالعمل الهين، فهو يحتاج لقدرة على قراءة ما وراء الحدث، وتحويل الهموم إلى سخرية، يحتاج الضحك لا لأن تنظر فقط.. ولكن لكي ترى أيضًا.

 والمُضحِكُون عَبر الزمان قليلون لصعوبة المهمة، فلا يستطيع القيام بها إلا أصحاب العزيمة.. وواحد من هؤلاء المضحكون.. الرقيق ذو الوجه الطفولي.. "جورج سيدهم"، والذي يوافق يوم ميلاده –أطال الله عمره- اليوم 28 مايو..
سمةٌ تجدها في أغلب المُضحِكُون، وهي ثقل الوزن، والذي ينعكس على خفة الروح، فمَنْ منا لا يذكر "ماري منيب"،و"إلياس مؤدب"،و"محمد رضا"، و"علاء ولي الدين"، و"لوريل" مع زميله النحيف "هاردي"، حتى المُتعدد المواهب "صلاح جاهين"...

"جورج أبيس سيدهم".. من صعيد مصر، وبالتحديد من محافظة "سوهاج"، جاء إلى القاهرة ليدرس الزراعة باختياره، وكلية الزراعة في تلك الفترة كانت معمل تفريخ للمواهب الفنية، وقد أثرت الفن بمواهب عديدة منها: (الزعيم "عادل إمام"، و"صلاح السعدني"، و"الضيف أحمد"، وغيرهم ...)

وهناك –بكلية الزراعة- أقنعه أصدقاءه بأنه يمتلك موهبة فنية، فهو يجيد فن الإرتجال، وعلى هذا التحق بجماعة المسرح، وعلى غير المُتوقع كان "جورج" يُمثل في المسرحيات التراجيدية مثل: "عطيل" و"ماكبث"، ومن خلال هذه المسرحيات وموهبته المُتفجرة، ترأس جماعة "سمر المسرحية"، والتي من خلالها تعرَّف على رفيق الدرب "سمير غانم"، والذي كان يترأس نفس هذه الجماعة في جامعة الإسكندرية..
وبعد أن التقيا.. جمعت بينهما كمياء الفن، وأخذا في تقديم مسرحيات لكبار المؤلفين من أمثال: "صلاح عبد الصبور"، و"نجيب سرور"...

 تخرَّج "جورج سيدهم" في الجامعة، وعمل في إحدى الوظائف الحكومية، وظل على علاقته بالتمثيل وعالم المسرح حتى قدَّم أول برنامج له مع "سمير غانم" و"عادل نصيف" واسمه: (مع الناس)، وبعدها التقطهم المخرج "محمد سالم" في برنامج "أضواء المسرح"، وقدَّموا "اسكتشات" من تأليف "حسين السيد" وألحان "محمد الموجي"، ثم تركهما "عادل نصيف"، وظلا يبحثان عمَنْ يحل محله، حتى وجدا ضالتهما في معجزة الكوميديا "الضيف أحمد"، والذي كان بالفعل ضيفًا خفيفًا على الدنيا، وحقق الثلاثة نجاحًا باهرًا من خلال اسكتشات: (كوتوموتو) وغيرها من الإسكتشات...

الملاحظ أن مواهب "جورج سيدهم" متعددة فعلاً، فقد أدى الاسكتشات وصوته ليس بالصوت الغنائي، ولكنه استطاع الأداء، وقدَّم الاستعراض -على الرغم من بدانته- في الفوازير والأفلام التي قدمها مع فرقة الثلاثي، وهذا راجع لأن هذا كان فعلاً "الزمن الجميل"، فكان القائمون على الفن في هذا الزمن يُقدِّرون المواهب دون الاعتماد على شكل الفنان، ولا على وسامته، بل الموهبة، والموهبة فقط..

كان عند "جورج سيدهم" خياران؛ الفن أو الوظيفة الحكومية، وكان من الطبيعي أن يختار الفن، فاستقال من وظيفته الحكومية..
في فرقة ثلاثي أضواء المسرح كان لكل فنان فيهم سمة هامة في الأداء، كانت تصنع في النهاية سمة مميزة للفرقة، وكان أهم ما يميز "جورج سيدهم" هو التعبير بوجهه وتمثيله الإيمائي، بالإضافة إلى أنه كان يقوم بالإضحاك دون أن يضحك، وقد قال "سمير غانم" أنه حاول أن يضحكه كثيرًا على المسرح لكنه لم يفلح في هذا، ولقد قدم الثلاثي فوازير رمضان، وهم أول مَنْ قدموها لمدة 12 عامًا، بإخراج "محمد سالم" وأفكار الثلاثي.

هذه هي مصر؛ أن يشارك "جورج سيدهم" بفنه مع أصدقائه الملايين في شهر الصيام، بدون أن يقف أحد عند هذا، فهو يقدم فنًا للملايين -وقد فعلت الرائعة "نيللي" مثله فيما بعد- حتى نصل لهذا الزمن الرديء، حتى جاءت النكسة سنة 1967م، وملأ الحزن كل شيء في الوطن، ولكن بعزيمة الفنان وفكره الثاقب، قرر "جورج سيدهم" وفرقة الثلاثي أن يقدموا الحزن بالعمل، فجاءت مسرحيات: (عزبة الورد، وطبيخ الملايكة ، وكل واحد وله عفريت..)

كان "جورج سيدهم" مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بـ"الضيف أحمد"، وهذا ما جعل وفاة "الضيف" تؤثر بشدة على "جورج" صاحب النفس المرهفة شديدة الحساسية، لدرجة أن رفض أن يحل أحد مكانه في الفرقة، وليبدأ هو و"سمير غانم" رحلتهما كثنائي، فقدما موسيقى في الحي الشرقي، وجوليو وروميت، ثم كان الانفصال الأول بينهما سنة 1975م، وقدم كل منهما أعماله على حدة، ولكنهما لم يلقيا النجاح، فعادا مرة أخرى بأشهر مسرحية لهما كثنائي "المتزوجون"، ثم مسرحية "أهلا يا دكتور"، والتي كانت نهاية الثلاثي وبداية انفصال الصديقين...

"جورج سيدهم" قدم للسينما أعمالاً كثيرة لم تكن له فيها أدوار بطولة، ولكنه كان يترك في كل عمل أثرًا لا يمكن محوه، حتى أنه يجعلك تنسى الفيلم وأحداثة ولا تتذكر إلا (الفيلم اللي كان بيمثل فيه جورج وعمل كذا وكذا..)
كان "جورج سيدهم" من أشهر عُذَّاب الوسط الفني، فلم يتزوج إلا بعد الخمسين من الدكتورة "ليندا"، واختار يوم زفافه يوم السادس من أكتوبر سنة 1991م، وهذا الحس الوطني يؤكده الإعلامي "مفيد فوزي" حيث أنه ذهب مع "نادية لطفي" صديقته لزيارة مصابين الحرب، ورفضا أن تصورهما عدسات المصورين، وطالبا بأن يهتم المصورون بالجرحى..

"جورج سيدهم" كان يمتلك "مسرح الهوسابير"، والذي تعرض لحريق كبير، على إثره أُصيب بجلطة في القلب سافر بعدها إلى لندن، وأجرى عملية تغيير لأحد الشرايين، وكالعادة في قدرته على التصميم، أعاد بناء المسرح من جديد، وقدم عليه آخر مسرحياته (نشنت يا ناصح)، من إخراج "عبد المنعم مدبولي" سنة 1995م، إلا أن أخيه "أمير سيدهم" قام برهن المسرح لأحد البنوك دون علمه، وحينما حُجز على المسرح، سقط صاحب البسمة والوجه الطفولي مُصابًا بجلطة في المخ، أفقدته القدرة على الحركة وعلى التواصل مع مَنْ يحبهم، إلا بالإيماءة والإبتاسمة...

قدم للسينما والمسرح الكثير من الأعمال، أما أعماله التليفزيونية فقليلة، نذكر منها (رأفت الهجان الجزء الثالث).
حتى وإن مَرض وظل في منزله، فلن ننسى الجميل "جورج سيدهم" لأن البسمة لا تُنسى، ولنقل له جميعًا: (سنة حلوة يا جميل ... ويللا حالاً بالاً حيوا أبو الفصاد.. هيكون عيد ميلاده أسعد الأعياد..)