الخير الخير الخير.. الخير الخير الخير.. وكمان الخير الخير.. الخير الخير الخير.

هذه هى الكلمات التى تظل تطنطن فى أذنى فى الفقرات الإعلانية الممتدة بين الفواصل الدرامية على الشاشات الرمضانية. كم مذهل من كلمات الخير الخير وكمان الخير الخير تتواتر وتتصاعد وتتكالب وتتصاعد، بل تكاد تنطلق خارج الشاشة وتفيض من جنباتها وتبدأ فى التسرب إلى خارج الشاشة حتى تملأ غرفة الجلوس أو المقهى أو قاعة الانتظار المثبتة فيها شاشة الخير.

شاشات الخير التى تتفجر فى وجوهنا هذه الأيام عبر مئات الإعلانات المليونية المطالبة والمناشدة والمدغدغة لقلوب أهل الخير للتبرع لمشروعات الخير من قبل أهل الخير ليستفيد منها مستحقو الخير فى شهر الخير لأن الإنسان فى الأصل خير ويعمل فى أجواء كلها خير وعليه أن يتبع منهج الخير فى التعامل مع الغير ممن لا يملكون نفس القدر من الخير فى بلد معروف عنه الخير وأجواء لا توحى إلا بالخير لا سيما أننا فى شهر الخير تجعل الخير حاضراً فى أذن كل منا.

بيع فكرة الخير التى تخاطب كل من له قلب تدور على قدم وساق فى مثل هذا الوقت من كل عام على مدار العقدين الأخيرين. وهى ظاهرة تستحق الدراسة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتأنية، لا سيما أن النسبة الأكبر من الدق على أوتار الخير نابعة من مشروعات ومؤسسات وكيانات كانت فى أزمنة سابقة من صميم عمل ومسئولية الدولة. بناء مدارس، تشييد مستشفيات، تجهيز مستوصفات، توصيل الكهرباء ومياه الشرب لقرى ونجوع، بناء أسقف آمنة لبيوت الفقراء فى القرى الأكثر فقراً، رصف طرق، وغيرها من أعمال البنى التحتية أصبحت مفتوحة أمام المواطنين من أهل الخير للتبرع للمشاركة فيها. والفكرة حقاً جميلة.

لكن أسئلة عدة تطرح نفسها فى هذا السياق دون أن يمس أى منها قيمة الخير أو مكانته أو سمو منزلته. فحين يتم جمع أموال الخير لبناء مستشفى وتجهيزه بالأسرة والمعدات الطبية، كيف يضمن المستشفى استمرارية العمل والإنفاق على علاج المرضى الذين سيخضعون للعلاج دون تكبد كلفته الباهظة. هل يكون ذلك عبر الاستمرار فى إعلانات مناشدة أهل الخير؟ وألا يعرض ذلك العمل فى المستشفى لتقلبات البورصة والأوضاع الاقتصادية وسعر الصرف وارتفاع الأسعار إلخ؟ أم تعتمد هذه المستشفيات مثلاً على تشغيل جانب استثمارى يمول الجانب المجانى؟

وحيث إن جوانب ضمان الاستمرارية والتأكد من توافر قواعد مستقبلية للتشغيل واستدامة العمل تعانى شحاً فى ثقافتنا، فإن السؤال عن استدامة واستمرارية أعمال الخير الكبرى أمر طبيعى ومنطقى تماماً.

منطقية هذا الكم من كراتين رمضان وشنطه ولحومه وأرزه وسكره وزيته وشايه وزبيبه تحتاج أيضاً إلى بعض التفكير والتروى دون عصبية أو اتهامات سابقة التجهيز. جميل جداً أن يتسابق المصريون لشراء كراتين رمضان ذات المستويات المختلفة والفئات المتدرجة من المتواضع إلى المتوسط وانتهاء بالفاره والفاخر. وجميل جداً أن يشعر البعض بالفرحة لأنه يعطى من هم أقل منه حظاً اقتصادياً، وأن يشعر البعض الآخر بالفرحة أيضاً لأن هناك من يفكر فيه ولأن محتويات الكرتونة من شأنها أن تخفف عنه جانباً ولو قليلاً من طلبات الشهر الكريم.

فوضوية أخرى ولكن من النوع الذى يأتى ملغماً بالقنابل العقودية القابلة للانفجار وقت اللزوم تتمثل فى استمرار قنوات عجيبة غريبة مريبة تستحلف أهل الخير إرسال التبرعات للقناة العجيبة والتى لا ترى فيها إلا سيدات منتقبات ينتحبن بسبب الفقر والضيق والمرض وعدم القدرة على إطعام العشر عيال أو علاج ستة أبناء مرضى من مجموع تسعة أبناء وبنات، مع مذيع ملتحٍ يستحلف المشاهدين من أهل الخير بالله ورسوله والمسلمين وأمة الإسلام أن يدفعوا ويجزلوا العطاء ليحجزوا لأنفسهم بيتاً فى الجنة؟ من هؤلاء؟ وأين تذهب هذه الأموال؟ وكيف؟ ولماذا؟

ثم لماذا تتخذ أعمال الخير دائماً وأبداً شكلاً دينياً، وتحديداً إسلامياً؟ أعلم تماماً أننا فى شهر رمضان، وهو مناسبة دينية من ألفها إلى يائها. لكن لماذا لا تكسب بنطاً يا أخى وتجعل التبرعات مسألة إنسانية وليست إسلامية فقط؟ لماذا تصر على الإبقاء على فصيل وطنى خارج منظومة الخير؟ أعلم أن قساوسة وشخصيات دينية مسيحية يظهرون أحياناً فى إعلانات لجمع التبرعات لمستشفيات خيرية، لكن لماذا لا يكون مشروعاً خيرياً إنسانياً للإنسان دون الدق على وتر الدين؟ فى بعض هذه الإعلانات أشعر أننا على وشك مشاهدة المطالبين بالتبرع وهم يهتفون لمشروعهم «إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية».

ما سبق، وغيره كثير، أسئلة عن الخير وأهله وناسه واستدامته وخانة ديانته.
نقلا عن الوطن