تحدثنا فى المقال السابق عن الدولة الوسطى، والفترة الانتقالية الثانية، والدولة الحديثة أو الإمبراطورية فى مصر حتى الفترة الانتقالية الثالثة والتى استمرت قرابة ٤٢٠ عاماً.
بدأت هذه الفترة بتعرض البلاد إلى انهيار فى كل المجالات، الاقتصادية والسياسية والثقافية. كما حل الضعف بمصر وكانت ثروتها ونماؤها الاقتصادى والاجتماعى سبباً فى جعلها أرضاً مغرية بالغزو من القوى الأجنبية، فازدادت التهديدات الخارجية مع تفاقم المشكلات الداخلية، وكان ذلك فى عصر الأُسر من الحادية والعشرين وحتى السادسة والعشرين.
أمّا من الأسرة السابعة والعشرين وما بعدها من أُسر فكانت مصر تحت حكم الفرس الذى انتهى بفتح الإسكندر الأكبر لمصر فى سنة ٣٣٢ ق. م. م.الأسرة الحادية والعشرون:
فى عهد هذه الأسرة انقسمت البلاد مرة أخرى وعادت إلى مملكتين وضعفت سيطرتها على البلاد الخاضعة لها. فقد كان الحكم مقسماً بين حكم «سمندس» فى الدلتا، وبين «حريحور» فى طيبة.
ففى طيبة تم نقل حكم البلاد لأول مرة إلى كبار الكهنة بعد قيام كبير كهنة آمون «حريحور» بخلع الملك «رمسيس الثانى عشر» وتأسيس الأسرة الحادية والعشرين. وفى عهد الملك «باى نجم» تم ضم الشمال إلى الجنوب بعد زواجه من ابنة «بسوسنس الأول» ابن «سمندس».
وفى هذا الوقت، بدأ ظهور قوى ليبية وامتد نفوذ أمرائها إلى أبيدوس، وقد استولى أحد هؤلاء الأمراء «شيشنق» على عرش مصر.
ن. الأسرة الثانية والعشرون:
لم تكُن الأسرة الثانية والعشرون مثل الأُسر المصرية السابقة التى حكمت مصر، بل انتقل الحكم إلى أسرة «ليبية» بعد ازدياد نفوذ الفرق الليبية وقربها من الحكام، والتى كانت تعمل كقوات مرتزقة فى الجيش المصرى عندما استعانت بهم الأسرة العشرون. ويُعد «شيشنق» هو أهم شخصية فى قبيلته، وقد وصل إلى حكم البلاد مؤسِّساً الأسرة الحاكمة الثانية والعشرين «الليبية». وقد اهتم بتدريب جيش عظيم، وقاد حملة وصل بها إلى القدس. ولكن ضعُف نفوذ الحكام التاليين له وانقسمت البلاد وانفصلت النوبة عن مصر.
وفى عصر حكم هذه الأسرة، بدأ زحف الإثيوبيين على مصر من الجنوب والآشوريين من الشمال. كما انقسمت مصر إلى عدة أقسام وولايات صغيرة فى أواخر فترة حكمهم.
س. الأسرة الثالثة والعشرون:
ظهرت الأسرة الثالثة والعشرون بعد ضعف آخر ملوك الأسرة الثانية والعشرين، «شيشاق الرابع»، وخروج الإقليم القِبْلى عن طاعته. وفى هذا الوقت ظهر التنيسيون واستولوا على الإقليم البحرى، وكان أول ملوك الأسرة «بتوباستس» الذى أخذ فى تقوية مملكته حتى استولى على طيبة، والتى اضطُر أمراؤها إلى اللجوء إلى الحبشة. وقد حاول خلفاؤه الحفاظ على هيبة الأسرة والمملكة، إلا أن عصر هذه الأسرة كان عصر مِحن وانقسامات، حتى إن مصر انقسمت إلى العديد من الولايات والتى وصل عددها إلى ٢٠ ولاية آنذاك. ومع ظهور هذه الانقسامات، نجح «بعنخى»- والذى كان سليل الأسرة الحادية والعشرين- فى إخضاع الأمراء الآخرين له، ثم عاد إلى الحبشة بعد أن ترك حكم مصر للفراعنة مقابل دفع مبالغ مالية.
ع. الأسرة الرابعة والعشرون:
أَسس هذه الأسرة «تفنخت» الذى حكم مدينة «نتر» إحدى الولايات العشرين، بعد أن قاتل واشتبك مع «بعنخى» بشدة. ثم تولى ابنه «بوخوريس» الحكم وظل فى صراع طويل مع الإثيوبيين ولكنه لم ينتصر بسبب بُعد الحبشة عنه فى الجنوب. إلا أنه نجح فى منع ملك آشور من دخول البلاد.
وبسقوط ممفيس والدلتا، انتهى حكم الأسرة الرابعة والعشرين وأصبحت مصر تحت حكم الإثيوبيين.
ف. الأسرة الخامسة والعشرون:
أَسس الأسرة الخامسة والعشرين الإثيوبية «بعنخى»، ولكن استمرارها فى الحكم لم يدُم طويلاً بسبب ضعف سيطرتها على الدلتا.
عاد «بعنخى» إلى «نباتا» بعد أن سلَّم حكم مصر إلى ابنه، والذى أغار فى عهده الآشوريون على مصر فقام بدفع الجزية لهم. ولكن تمرد الحكام الذين خلفوه فحاربوا الآشوريين. وتفوق الآشوريون على مصر حتى إنها أصبحت فى قبضتهم، ولكنهم اضطُروا للرحيل من البلاد، بعد أن تفشى الوباء بين الجنود. إلا أن الآشوريين عادوا إلى مصر مرة أخرى وتوغلوا فى البلاد حتى وصلوا إلى طيبة، ولكنهم لم يستمروا طويلاً بعد صراع الملك «تا آن واتى آمون» معهم ونجاحه فى دفعهم إلى التقهقر مرة أخرى إلى الدلتا.
ص. الأسرة السادسة والعشرون:
أَسس الأسرة السادسة والعشرين «نخاو» الذى اعترف الملك الآشورى «أَسَرْحَدُّون» به ملكاً على مصر. ثم تولى الحكم بعده ابنه الملك «بسماتيك» الذى تمكن من طرد الحامية الآشورية من مصر التى تحررت من السيطرة الأجنبية عليها. وفى عصره أيضاً تم توحيد البلاد.
تميز عصر الملك «بسماتيك» بالرخاء والمجد والإصلاح. وقد أولى الجيش اهتماماً خاصاً كما اهتم بتقويته من خلال الاستعانة بالمرتزقة الإغريق، فاستعاد الجيش قوته، مما جعله يقوم بحملات ناجحة على سوريا وقوِيَت الحدود المصرية.
ومن ملوك هذه الأسرة أيضاً، «نخاو الثانى» الذى انتصر على الجيوش السورية فى موقعة «مجدو»، إلا أنه هُزم أمام البابليين. وقد تمكنت البحرية المصرية فى عصره من الإبحار حول أفريقيا بدءاً من البحر الأحمر وانتهاءً بالعودة عن طريق البحر المتوسط.
وفى عهد الملك «أرييس» اجتاحت البلاد ثورة أسفر عنها تولى الملك «أحمس الثانى» حكم مصر. ولكنه اعتمد على الإغريق بدرجة كبيرة، ما أدى إلى زيادة أعدادهم فى مصر جداً، كما ازدادت معهم التجارة والصناعة اليونانية فى مصر. وانتهى حكم الأسرة السادسة والعشرين بغزو الفرس مصر فى عهد الملك «بسماتيك الثالث».
ق. الأسرة السابعة والعشرون وحتى الأسرة الثلاثين:
بعد غزو «قمبيز» الفارسى مصر وانتصاره، توج نفسه ملكاً شرعياً لمصر ملقباً نفسه بلقب الملك الفِرعَونى «ملك مصر العليا والسفلى». وقد انتهك «قمبيز» حرمة الديانة المصرية مما ولَّد شعوراً جارفاً لدى المصريين بكراهيته. وقد قام الشعب المصرى بالعديد من الثورات ضد الفرس، ولكن لم يُكتب لهذه الثورات النجاح حتى حكم «داريوس» الملك الفارسى، حينما تمكنوا من الحكم إلى جوار الأسرة السابعة والعشرين الفارسية.
أمّا الأسرة الثامنة والعشرون فهى أسرة تكونت من مَلك واحد فقط هو «أميرتى». وقد تركه الفرس يعيش فى أمن شريطة عدم التعرض أو الاعتداء على الأقاليم التى يحكمها الفرس. ولكنه بعد فترة هاجم الفرس واستطاع طردهم حتى سوريا معلناً الاستقلال. بعد موت «أميرتى» تمكن «نفوريت» من تأسيس الأسرة التاسعة والعشرين، ولم يُذكر الكثير عن هذه الأسرة.
وفى عصر الأسرة الثلاثين التى أسسها الملك «نقطانب الأول»، اهتم ملوك هذه الأسرة بالبناء وإصلاح البلاد داخلياً. كما أولوا اهتماماً كبيراً بالتجارة حتى إنها ازدهرت فى عصرهم. إلا أنهم كانوا فى صراع شديد ودائم مع الفرس. ولكن الفرس تمكنوا من إعادة مصر تحت سيطرتهم وحكموها بعد انتهاء حكم الأسرة الثلاثين، إلا أن هذا الحكم لم يستمر طويلاً حيث قام الإسكندر الأكبر بالاستيلاء على مصر عام ٣٣٢ ق. م. بعد طرد الفرس منها.
ث. دخول الإسكندر مصر ٣٣٢ ق. م:
ازداد نفوذ الدولة الفارسية فى الشرق وأخضعت الكثير من المدن تحت حكمها. وقد وصل غزو الفرس إلى المدن اليونانية التى اعتبرت الفرس عدواً خطراً ينبغى قتاله ومواجهته، إلا أنهم لم يتمكنوا من هذا بسبب التمزق الذى كان يسود بلادهم.
استطاع الملك «فيليب»، ملك مقدونيا، القيام بتوحيد المدن اليونانية، ثم بدأ فى سعيه لتوسيع البلاد، فبدأ بالاستعداد لغزو الفرس، إلا أن الفرصة لم تواتِه بسبب تعرضه للاغتيال.
تولى الحكم بعده ابنه الإسكندر الذى قاد الإغريق فى حرب ضد الفرس، وبدأت الولايات التى تقع تحت الحكم الفارسى فى التساقط الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل الإسكندر إلى مصر عن طريق غزة. وبدخوله مصر، قام الوالى الفارسى بتسليم مصر دون مقاومة، وقد رحب المصريون بالإسكندر الذى اعتبروه منقذهم من الحكم الفارسى.
ومن هنا نجد أن الحضارة الفرعونية القديمة استمدت نجاحها من القدرة على التكيف مع ظروف وادى نهر النيل. وأدى إنتاج محاصيل زراعية إلى التنمية الاجتماعية والثقافية. كذلك قامت السلطات باستغلال المعادن الموجودة فى منطقة الوادى والمناطق الصحراوية المحيطة به، بالإضافة إلى التجارة مع المناطق المحيطة بها، وتعزيز القوى العسكرية للدفاع أمام الأعداء.
وقد ظهرت براعة المصرى القديم فى البناء والتشييد، كما يظهر فى الآثار الخالدة، ففى الدولة القديمة شُيدت المصاطب والأهرامات، وفى الدولة الوسطى انتشرت المعابد الجنائزية.
أمّا عصر الدولة الحديثة فيُعد من أعظم فترات أساليب العمارة والصور الجِدارية والحِرف والفنون الدقيقة التى تظهر على حوائط بعض المعابد الضخمة كمعابد الكرنك والأقصر وأبى سمبل. وقد استخدموا الحفر الغائر والبارز بروزاً بسيطاً حتى لا تتعرض للضياع أو التشويه.
أما المسلات الفرعونية المصنوعة من الجرانيت فقد أُقيمت فى مداخل المعابد. وظهرت اتجاهات جديدة فى فنون العمارة والفنون التشكيلية والتطبيقية، وذلك فى فن نحت التماثيل وزخرفة أعمدة المعابد والنقوش الجِدارية.
هذا بالإضافة إلى البراعة فى نُظم الرياضيات والهندسة والطب، والقيام بوضع نظام للكتابة الهيروغليفية، وهم أول من عرفوا السفن والأساطيل والقيشانى المصرى والرسم على الزجاج.
وفى الآداب، عرف المصريون القدماء أشكالاً جديدة من الأدب والتى تؤكد براعتهم فى الكتابة والأدب. فقد كتبوا القصص التى تحمل الحكمة وآداب السلوك. كما كتبوا ببراعة أيضاً فى الأدب الدينى الذى تناول العقائد الدينية واعتقاداتهم عن الحياة الأخرى، وحرصوا على تسجيل وتدوين تاريخهم والأحداث التى تعرضوا لها فى حياتهم.
أمّا عن تأثير هذه الحضارة على العالم، فقد ظهرت فى محاكاة الحضارة والفن والعمارة المصرية فى العالم، كما نُقلت آثارها إلى أماكن عديدة فى كل العالم. وأدت الاكتشافات الحديثة عن الآثار والحفريات المصرية إلى ما أُطلق عليه علم «المصريات» Egyptology.
بعد تأثر المجتمع المصرى بل العالم بأسره بالحضارة الفِرعَونية، انتقلت مصر إلى حِقبات جديدة مع حضارات أخرى أثْرت وأثَّرت وتأثرت بشخص الإنسان المصرى فى حديث عن مصر لا ينتهى... !
المصرى اليوم