إذا كان المتاجرون بالدين والمتكسبون من ادعاء العلم به والسائرون وراءهم نياما والمستفيدون منهم قد رأوا فى عيد الميلاد موضوعاً للجدل حول تهنئة المسيحيين بعيدهم، وهل تكون هذه التهنئة حلالاً للمسلمين أم هى محرمة عليهم- إذا كان هؤلاء الأشرار قد حولوا عيد الميلاد من مناسبة للفرح المتبادل ونبذ الفرقة والإقبال على الحياة إلى فرصة متاحة لإثارة الجدل وما ينطوى عليه ويسفر عنه من عواطف شريرة وأوهام باطلة ونزعات هدامة، فعلينا نحن أن نجعله فرصة نتصدى فيها لهذا الشر الوبيل ونعرف أسبابه ونكشف عن جذوره.
لا يكفى أن نقاطع هذا الجدل، ولا يكفى أن نستنكره، ولا يكفى أن نهنئ أشقاءنا بالعيد الذى هو عيدنا، كما أنه عيدهم، لأن المسيح لنا كما هو لهم، بل يجب أن نعرف أسباب هذه الفتنة التى لا تكف عن نفث سمومها القاتلة ونشر ثقافتها الشريرة التى تحولت إلى واقع نراه ونلمسه ونتابع أحداثه يوماً بيوم وساعة بعد ساعة.
كنائس تدمر، والرصاص ينهال على المصلين فى عيد الميلاد. وأسر تهجّر. وفتيات يختطفن. وناخبون يمنعون من الإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات والاستفتاءات.
وإذا كانت الفتنة قد بدأت حوداث فردية أو شخصية لها أسبابها المحددة، فقد تحولت إلى مواجهات لا سبب لها إلا اختلاف الدين. وإذا كانت هذه المواجهات قد استنكرت من قبل واعتبرت خروجاً على القانون، فقد أصبحت فى هذه الأيام مطالب وبرامج وسياسات تتبناها تيارات وأحزاب ممثلة فى السلطة.
بل لقد فرضت الفتنة نفسها على الدستور الجديد- دستور الثورة!- فأصبحت قانوناً أساسياً معترفاً به يميز بين المصريين والمصريين، ويحرم بعضهم مما يسلم به للبعض الآخر. وإلا ففى دولة ينص دستورها على أن دينها الإسلام، ومبادئ الشريعة الإسلامية التى تشمل أدلتها وقواعدها وأصولها هى المصدر الرئيسى للتشريع فيها، والأزهر هو المرجع الذى يؤخذ رأيه فيما يتعلق بالشريعة- فى مثل هذه الدولة كيف يختار الناس حكامهم وعلى أى أساس؟ هل يحق للمسيحى أن يرشح نفسه لرئاسة الدولة؟ وهل يحق لنا أن نعطيه أصواتنا؟ وهل يحق لنائب يهودى أن يمثل المسلمين فى البرلمان؟ وهل ينتظر من هذا النائب أو من أى مواطن مصرى لا يدين بالإسلام أن يحترم دستوراً يحرمه من حقوق المواطنة ويعتبره شخصاً زائداً عن الحاجة غير مرغوب فيه؟
فإذا كانت الفتنة قد تحولت إلى قانون أساسى ونظام سياسى، فمن الطبيعى أن يتجادل المتجادلون حول تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد، وأن يعتبروا هذا الجدل التزاماً سياسياً وحقاً دستورياً من حقوقهم وخدمة يؤديها من يحسن الفتوى فى نظر نفسه لمن يطلبها.
ومن الطبيعى فى المقابل أن يشعر المصريون المسيحيون وغير المسلمين عامة بالغربة فى وطنهم، وأن يخافوا ويتوقعوا الشر فى كل لحظة، وأن يبحثوا لأنفسهم عن مهجر أو ملجأ، عملاً بنصيحة بعض السلفيين الذين خيروا المسيحيين المصريين بين مواطنة من الدرجة الثانية أو المنفى!
وقد نشرت الصحف فى الأيام الأخيرة أن «الاتحاد المصرى لحقوق الإنسان»، رصد عدد المسيحيين المصريين الذين تركوا وطنهم خلال العام الأسبق فوجدهم أكثر من مائة ألف من الأطباء والصيادلة والمهندسين، تفرقوا فى أنحاء أمريكا، وكندا، وأستراليا، وأوروبا.
وسوف نقع فى خطأ قاتل إذا ظننا أن المسيحيين وحدهم هم ضحايا هذه السياسة الشريرة التى تخيف المسلمين، كما تخيف المسيحيين، لأنها تستخدم الدين لتبرير الطغيان والاستحواذ على السلطة والانفراد بها، وإذن فهى لا تضيِّق على المسيحيين وحدهم، وإنما تضيق على كل المعارضين وتصادر كل الحريات باسم الدفاع عن الإسلام وتطبيق الشريعة. وإذن: هل نهنئ المسيحيين بعيدهم؟
بعضهم أفتى- وله الحق من الوجهة المنطقية!- بأن تهنئة المسيحى بعيده حرام، لأن التهنئة لا تكون إلا بمكسب يناله الذى يتلقى التهنئة، أو بمناسبة يتحمس لها من يهنئه ويغبطه عليها ويتمنى مثلها لنفسه. فإذا كان صاحب الفتوى يعتقد أن المسيحية شرك وضلال فالتهنئة بها حرام!
وبعضهم تلطف، كما فعل الشيخ المحلاوى، فسمح لنا بتهنئة المسيحيين، لكن بشرط هو ألا نعتبر عيد الميلاد مناسبة سارة تستحق التهنئة، وإنما تجوز التهنئة فقط حين تكون «بنية الهداية»! أى حين لا تكون مقصودة لذاتها، بل توطئة لما يمكن أن ينجح المهنئ فى الوصول إليه، وهو هداية المسيحى الضال للإسلام!
التهنئة إذن عند الشيخ المحلاوى نوع من التحايل وإظهار الود وإخفاء القصد الحقيقى، وهو إخراج المسيحيين من دينهم وإغراؤهم باعتناق الإسلام. كأن البشر لا يستحقون العطف والمودة إلا إذا كانوا ينتمون لدين بعينه، فإذا كانوا أصحاب دين آخر فهم أعداء وخصوم. وكأن الدين هو الرابطة الوحيدة التى تجمع بين البشر. وكأن المسلمين فى مصر أقلية مضطهدة تحتاج لمن ينضم إليها ويضاعف نصيبها. وكأن اعتناق دين من الأديان يحتاج إلى استدراج الناس والتحايل عليهم. وكأن الإسلام فى حاجة إلى هذا الأسلوب الكريه فى مخاطبة الناس ودعوتهم للدخول فيه.
هكذا تتجاوز الفتنة الطائفية الحدود والسدود فلا تكون خطراً على المسيحيين وحدهم، ولا على المسلمين بأشخاصهم، وإنما تصبح خطراً يهدد الإسلام ذاته، ويشوه مبادئه وقيمه، ويجعله أحبولة تصطاد العابرين. ومن هنا وجب علينا أن نواجه هذه الفتنة ونتصدى لها ولا نقف عند مظاهرها وحوادثها المتقطعة، وإنما نتحرى أسبابها ونكشف عن جذورها لنتخلص منها، ومما تجرنا إليه وتغرقنا فيه مما نستطيع أن نتوقع بعضه ونعجز عن التنبؤ بمعظمه.
وقد رأينا أن الطغيان السياسى هو أصل الداء، وهو السبب الجوهرى للفتنة الطائفية، لأن الطاغية يسعى للانفراد بالسلطة، فعليه إذن أن يتخلص من الشعب الذى يحق له أن يكون حراً وأن يحكم نفسه بنفسه.
وبما أن الطاغية يريد أن يستخدم الشعب فهو لا يستطيع أن يبيده، وإنما يكتفى بأن يدمر قوته ويمزق وحدته ويصادر حرياته ويجعله شيعاً متفرقة، وطوائف متناحرة، يحكم قبضته عليها ويسلط بعضها على بعض.
شعار الطاغية هو «فرق تسد». وإذا كان عبدالناصر قد صادر الحريات وحل الأحزاب وسلط على المعارضين أجهزة الأمن، فالسادات وجد نفسه مضطراً لضرب اليساريين والناصريين بالإخوان المسلمين. وفى هذا المناخ الذى ساد فى السبعينيات الأولى من القرن الماضى بدأت أحداث الفتنة الطائفية.
الفتنة الطائفية إذن هى بنت الطغيان. فإذا أردنا أن نتخلص من الفتنة فعلينا أن نتخلص من أبيها!
نقلا عن المصري اليوم