بقلم: محمد حسين يونس
توفي اليوم عن 88 سنة أستاذى الدكتور المهندس ميلاد حنا ..ورغم أنني لم أقابله منذ مدة قد تطول لعشر سنوات الا أنه كان دائما علامة من العلامات التي أثرت في حياتي .
عام 1958 كنت طالبا في هندسة عين شمس في السنة الاولي ..و كان الدكتور قد عاد حديثا من بعثتة بانجلترا ويدرس لقسم العمارة مادة تسميstructure كبداية لتعلم تصميم المنشأت الخرسانية كان أسمر طويل كأبناء النوبة متحمس مهتم بان تصل المعلومات لمن يستمع له و كان طلبة عمارة غير مهتمين بدراسات قسم مدني فيحاول جذبنا- رغم جفاف الموضوع الذى يدرسه- بأساليب مختلفة منها مناقشات فلسفية تنشط العقل حول القيم الانسانية وعلاقة الانسان بالطبيعة و الكون والبشر .
تكونت بسرعه صداقة بيننا أستاذ حضر ليؤدى رسالة تغيير المفاهيم والعقول وطالب مهتم أن يفهم ويتعلم .. في السنة التالية- والتي لم يعد يدرس لنا فيها- أعلن عن تكوين أسرة ميلاد حنا ضمن عديد من الاسر التي كانت شائعه في جامعات ذلك الزمن .. و كنت من أول المنضمين المتحمسين وبدأنا أنشطة بسيطة كالذهاب الي المقطم مشيا ،أو البحث في الطبيعة الجيولجية و التكوينات الرسوبية .. وكان دائما ما يحدثنا عن إشتراكية فابية وروادها برنارد شو وويلز و يشجعنا علي القراءة باللغة الانجليزية لمسرحيات شكسبير المبسطة أو لسماع موسيقي كلاسيك لموتسارت و بتهوفم و كانت له أوصاف لاتنسي في علم الجمال (اسيتيك ) ..لم تكن اسرة ميلاد حنا ذات ضجيج او حفلات صاخبة و لكن كان لها مجلة حائط ( من اوائل مجلات الحائط بالجامعات المصرية ) و كنا نحررها بافكار تجذب العديد من الشباب للوقوف و مطالعتها .. كتبت في يوم عن اللامنتمي .. و في اخر عن اللامعقول في المسرح و الادب ..و عن المدرسة التجريدية في الرسم و النحت ..و كان لا يتدخل في المادة لكن يوجه في اسلوب وطريقة السرد .
تخرجت من الجامعة لكنني كنت حريصا ان ازورة مرة او مرتين في مكتبه بجوار ميدان الاوبرا فيترك اعماله ويجلس يناقش معي أهم المتغيرات بعد أن أصبح المجتمع إشتراكيا .. كان له بعض التحفظات علي الاشتراكية الناصرية خاصة بالحريات و الاعتقالات ولكنه كان من المؤيدين للقطاع العام و تحالف قوى الشعب العامل .
إنضممت الي الجيش و إبتعدت عن الدكتور ميلاد قليلا حتي كانت هزيمة 67 عندماعدت من الاسر التقيت به عدة مرات كان يتحدث فيها عن اهمية المقاومة و رفع درجة الوعي المهني و السياسي و العلمي لذلك رشح نفسة في نقابة المهندسين و كنت من الذين إعتمد عليهم لتقديمه للزملاء.. في ذلك الزمن كان السادات قد أطلق زبانيته علي اليسار بالجامعه و كانت اسرة ميلاد حنا- و ميلاد نفسة - هدفا رئيسيا لهم لولا دبلوماسيته و قدرته علي الاقناع ومعذلك كان من الذين ضمهم كشف إعتقالات السادات الشهير قبل إغتياله .
في المعركة الانتخابية بدأت التفرقة بسبب الدين تظهر و بدأ المهندسون المسلمون يجبهون ضده .. وكنت احاول أن اعيد الوضع لاختيار الاكثركفاءة بذلت والزملاء المتطوعين لدعمه جهدا ضخما حتي كان من الناجحين .. بعد ذلك كنت التقي به في اماكن العمل يناقش و يقترح و يقدم افكارا عصرية و مبتكرة حتي تم إختيارة ليصبح عضوا معينا في مجلس الشعب و رئيسا للجنة الاسكان فانشغبل بالهم العام حتي لم يعد هناك وقت لاصدقاءة .. و مع ذلك في يوم وجدته علي الطرف الاخر من التليفون يمدح كتاب لي عن ثقافة المصريين ثم دعاني لزيارتة بمنزله بالمهندسين ليعطيني كتابه الاعمدة السبعه للشخصية المصرية (باللغة الانجليزية ) تكاد أفكارة تتطابق مع كتابي فعرفت كم أثر في تكويني العقلي الدكتور ميلاد .. لقد كان يرى أن مصر مجتمعا متعدد الطبقات طبقة فرعونية و اخري اغريقيه ثم رومانيه ثم قبطية ثم شيعيه ثم سنية.. كلها في خلطة واحدة تشكل تميز الانسان المصري و ان اى تجاهل لمكون من المكونات يصيب ال structure بخلل .
لقد كان استاذا ظل يناضل و يعلم و يكتب و ينشر الي اخر العمر كافأه الله علي إخلاصه ومحبته وجعل ذكراه دائما عطرة .