بقلم مهندس عزمي إبراهيم
يحتفل العالم تلك الأيام المباركة بميلاد طفل ليس كأي طفل. بل هو إلـَهٌ شاء أن يُولَد ويشب ويعيش بين البشر لِهَدَف عظيم هو فِداء البشرية. فملأ الملأ عندما نشأ بعبقِ وعُمقِ المحبة والرحمة والوداعة والعطاء والحكمة والسلام. فسَرَت مَحَبَّته، ومَحَبَّة سِيرته وآياته، إلى قلوب وعقول الملايين على اختلاف معادنهم ولغاتهم وثقافاتهم وخلفياتهم وطبقاتهم الاجتماعية والمالية بسهولة كما تسري أنسام الربيع الطيبة في رياض تشتهيها وتتشوق إليها.

وكان ميلادُه بدءَ عهدِ جديدِ.
ولكن "العهد الجديد" الجزء الثاني من "الكتاب المقس" تاريخياً لم يبدأ بميلاد يسوع المسيح بل بميلاد يوحنا المعمدان الذي وُلِدَ قبل ميلاد السيد المسيح بستة أشهر والذي «أعَدَّ طريق الرَّب.» حيث كَانَ يوحنا يَكْرِزُ قَائِلًا: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.» (مرقس 7:1-8). ومطابقة ذلك في انجيل لوقا «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.» (لوقا 3: 16). لذا يُعتبر ميلاد يوحنا المعمدان هو بدءُ "العهد الجديد".
وأيضاً قال يوحنا لتابعيه: «أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ. مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ. يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ.». «اَلآبُ يُحِبُّ الابْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً، بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ.» (يوحنا 27:3-36)
اما السيد المسيح فقد قال عن يوحنا «لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ.» (مت 11: 11)
***
الميلاد الإلـَهي: كانت هناك قرية متواضعة من قري اليهودية واسمُها "بيت لحم" احتضنتها ليلة من ليالي الشتاء. كانت ليلة هادئة سادَها سكونٌ عظيمٌ يكاد أن يُسمع به الصمتُ. وغلفتها سماءُ صافية بنجومٍ وديعةٍ بدت كَحَبّات لؤلؤ في طبق كبير. وكان هناك بعض رعاة يحرسون رعيتهم ليلاً. وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومَجْدُ الرب أضاء حولهم. فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب. إنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلصٌ هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مُقَمَطاً مُضّجعاً في مذودٍ. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الملائكة مُسَبِّحين وقائلين:
«الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.»
اختار يسوع المسيح لميلاده ليلة هادئة لا صخب فيها ولا ضجيج، وسماءً صافية بلا غيمٍ يشوبها لأن الطبيعة كما أثبتت الأيام مِلكُهُ وطوعُ إرادتِه. واختار بإرادتِه الإلهية قرية بسيطة متواضعة هي الصغرى في قرى اليهودية لتكون مقرَ مِيلاده. كما اختار، وهو القدوس، مذودَ بقَرٍ ليكون مضجعاً له. فقد أراد أن يكون مَثلاً للناس طفلاً لما يريد أن يدعُو الناس إليه كبيرا.

في ليلة ميلاده كانت النجومٍ مِلءَ السماء تبدي ضوءها البعيد وديعاً رقيقاً، إلا نجماً واحداَ منها شاء أن يسطع ويزهو على النجوم جميعاً. شاء أن يساهم في احتفال تلك الليلة المباركة بأن يكون مُرشداً ودليلاً نحو الوليد القدوس. شاء هذا النجمُ، أو كُلِّفَ، أن يزهو ليضيء الطريق لثلاثة من شيوخ المجوس قادمين من المَشرق البعيد إلى أورشليم كي يهديهم إلى ما كانوا يصبون إليه، حيث وُلِدَ النور الحقيقي.
وعند وصولهم أورشليم، بعد رحلة طويلة مضنية ولكنها مُرضِية لقلوبهم ولعقولهم ولإيمانهم، سألوا: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ.» فقيل لهم: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ.» التي تنبأ عنه وعنها الأنبياء في العهد القديم. فذهبوا وكان النجـم يتقدمهم حتى وقف حيث كان الصبي مع أمِّـه مريَـم. فَخَرُّوا ساجديـن له، ثم فتحوا كنوزَهم وقدموا له هدايا: ذهَبـاً ولبـاناً ومُـرّاً.
وكان لكلٍ من الهدايا الثلاث دلالة ومعنىً ورمزاً روحياً قصده الشيوخ الثلاثة:

فالذهب كما نعلم من المعادن النفيسة والنادرة، ولم يكن حينئذ متاحاً لعامة الناس بل كان من مقتنيات الملوك والأباطرة وحِكراً لِكبار القوم. فكان إهدائه للطفل يسوع رمزاً لكونه القدوس، راعي الرعاة، وملك الملوك، والخبز الإلهي الذي نزل من السماء للعالم أجمع. آمنت بألوهيته أمَمٌ وشعوبٌ، أباطرة وملوكٌ وعلماءٌ ومفكرون وباحثون ودارسون ومؤرخون على مستوى العالم أجمع، وفي كل العصور، بلا سيفٍ ولا رمح ولا غزو ولا سبي، ولا غنائم ولا جزية ولا دماء، بل لحلمِه وحكمتِه ومحبتِه وتعاليِمه، فمَجَّدُوه وسَجَدوا له طوعاً لا غصْباً ولا قسْراً.
أما اللبان فهو حَبَّات من مادة صَمغية تنمو على الأشجار في مناطق مختلفة من الشرق، وعُرفَ منذ العصور القديمة حتى اليوم باستخداماته كبخور في المعابد والهياكل المقدسة والطقوس الدينية، فهو كهدية يرمز إلى الصلاة والتعَبُّد والتواصل بالله. فقد قال دواود النبي في سفر المزامير رافعاً صلاته للرب: «فلتستقِم صلاتي كالبخور أمامك.»

أما المُرّ فهو من الأصماغ شديدة المرارة، تفرزها سِيقان بعض النباتات. وكان يستخدم بشكل خاص كدواء لشفاء بعض الأمراض. أما تقديمه كهدية فيرمز إلى قسوة ما سَيعانيه يسوع المسيح، بكامل إرادته، من آلام بتجَسّده كبشرٍ تضحية منه بذاته لفداء البشرية قبل صعوده إلى كرسي عرشه بالسماء مَلِـكاً ليس لملكه نهايـة.

يسوع المسيح، طفل المذود هو الله المتجَسِّد، وله كل المجد والتقديس منذ الأزل وإلى الأبد. وفي عيد ميلاده المجيد أهدي تمنياتي لكل البشر من أي دين وعقيدة بعام جديد سعيد، وكل عام وأنتم بخير وفي سلام.