عبد المنعم سعيد
كانت زيارتى الأخيرة إلى دبى لحضور منتدى الإعلام العربى مفاجأة بكل المقاييس. لم تكن قد مرت إلا سنوات قليلة منذ الزيارة الأخيرة (٢٠١٤)، إلا أن هذه المرة بدت المدينة كأنها جديدة تماما، وظهر ذلك منذ حطت الأقدام فى المطار، وحتى غادرته. الأمر لم يكن أبراجا جديدة أضيفت أو شوارع إضافية شقت، أو مولات مبهرة أقيمت، وإنما مولد سقوف أعلى من التفكير والتطبيق والسعى. قبل الزيارة لم أكن مستوعبا لحقيقة سعى الإمارات العربية المتحدة إلى إرسال مسبار فضائى إلى كوكب المريخ مع حلول اليوبيل الذهبى لقيام الدولة عام ٢٠٢١؛ فمعنى ذلك أن المركبة الإماراتية سوف تقطع ٢٢٥ مليون كيلومتر قبل الوصول إلى الكوكب الأحمر، وهكذا سوف تكون ضمن تسع أمم فى العالم فقط تستطيع تحقيق هذا الإنجاز. أولا لم أكن مدركا لماذا تذهب الإمارات إلى الفضاء بينما هناك الكثير الذى يمكن عمله على الأرض؛ وثانيا مع العلم بعدد سكان الإمارات (مليون ومائة ألف) فهل تملك رفاهية تبديد ثروتها البشرية مع آلاف المشروعات الأخرى التى تقوم بها بالفعل. فى المطار وجدت ما لم أجده فى المدن الأمريكية والأوروبية التى زرتها حديثا، كان المطار بأكمله متماشيا مع الثورة التكنولوجية الرابعة، فما إن تصل إلى مكتب دخول الدولة، فما عليك إلا النظر أمامك، وبعدها سوف تتولى حسناء مبتسمة ختم جوازك، ومرحبا بك فى دولة الإمارات.
هذه اللحظة «النكدية» عادة فى مطارات العالم المتقدمة، لأن اسمك يدل على أنك عربى ومسلم وتسافر كثيرا وهى واحدة من خصائص الإرهابيين؛ أو لأنه فى العالم المتخلف لديهم دوما مشكلة لماذا كان حظك تعيسا إلى درجة أن تأتى إلى بلادهم؛ أو لأنك فى مطار القاهرة سوف تجد الإجهاد حليفهم ولديهم مشكلة دائمة فى حقيقة أنك كنت يوما عضوا فى مجلس الشورى ولم تسلم جواز سفرك حتى تثبت ذلك بخطاب مختوم من وزارة الخارجية بأنك سلمته وتقسم بأغلظ الأيمان أن مجلس الشورى لم يعد له وجود.
ما حدث فى دبى ولم يكن موجودا فى بلاد أخرى أن المدينة والدولة اتخذتا قرارا ثوريا (الثورات بالمناسبة أنواع وهى تكون عظيمة عندما تنقل البشر من حال إلى آخر أفضل؛ وتعيسة عندما تأخذهم إلى الهاوية) بأن تكون سقوفهم عالية، فهم لا يدخلون سباقا مع الدول النامية الأخرى، ولا يدخلون سباقا مع الدول المتقدمة الأخرى أيضا، وإنما هم يدخلون سباقا مع أنفسهم ومع الزمن. المسألة ليست مسبارا يذهب إلى الفضاء، كما أنها ليست مدينة كاملة تعمل بالطاقة الشمسية، ولا أن تبنى برجا هو الأعلى فى العالم فالأمر فى جوهره أن تعيش العصر كله بثوراته التكنولوجية وأساليب عمله المتقدمة. وحسبما روى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم فى كتابه «قصتى: ٥٠ قصة فى خمسين عاما» أنه طلب فى مجلس الوزراء أن تختار كل وزارة مؤشرا أو اثنين فى التقارير الدولية شريطة أن تحقق المركز الأول عالميا قبل العام ٢٠٢١. «اليوم حكومة الإمارات، وقبل الموعد المحدد، الأولى عالميا فى أكثر من ٥٠ مؤشرا دوليا، والأولى إقليميا فى أكثر من ١٠٠ مؤشر تنموى، والأعلى كفاءة فى العالم حسب التقارير الدولية، والأعلى ثقة أيضا بين شعبها مقارنة ببقية الحكومات».
تحقيق ذلك «ثروة» فى حد ذاته لأنه يضع المدينة والدولة فى مكانة خاصة أمام المؤسسات الدولية لأنه من الناحية المادية لا يوجد سوى صحراء جدباء على ساحل طويل مهدد من قبل دولة كبيرة على الجانب الآخر من الخليج. والخبرة التاريخية لم تكن قائمة لا على الزراعة ولا الصناعة وإنما على صيد اللؤلؤ، وما تواجد من نفط فيما بعد فإنه لا يعطى أكثر من دولة نفطية ريعية ترتفع وتنهار مع أسعار النفط، وفى كل الأحوال فإن طقسها حار، ورطوبتها خانقة تسعة أشهر من العام. هناك لا توجد أهرامات، ولا أى من عجائب الدنيا السبع الأخرى، ولا معبد الكرنك، ولا نيل، ولا قصور أمراء وخلفاء وسلاطين مرت على آلاف الأعوام. ومع ذلك فإن دبى بدأت بمطار وميناء ومنطقة حرة فى جبل على، وشق طريق لبحر الخليج لكى تتغلغل المدينة، فيقوم على ضفافها حضارة تجذب المشهورين فى العالم، فيأتى لملازمتهم آلاف غيرهم. النتيجة كانت شركة طيران «الإمارات» تنافس على المكان الأول بين شركات الطيران فى العالم، وشركة موانئ دبى التى تدير ٧٨ ميناء فى العالم (منها ميناء العين السخنة بالمناسبة)، وتستحوذ المدينة على ثلث عائدات السياحة الدولية فى منطقة الشرق الأوسط، و٣١٪ من عائداتها، فى ٢٠١٧ بلغ عدد السياح الدوليين ١٦ مليون سائح، والخطة تسعى إلى ٢٠ مليون سائح عام ٢٠٢٠، أى العام القادم.
فى جبل على أقامت ٧٠٠ شركة صناعتها التى لا توجد لها بالضرورة مواد أولية تجعل نصيب النفط من الناتج المحلى الإجمالى الإماراتى ٢٦٪.
كيف فعلتها دبى والإمارات مع مواطنين لا يزيدون على ١٥٪ من المقيمين؟ وهل يمكن لهؤلاء وحدهم تحقيق كل ما تحقق؟
الإجابة نعم، إذا ما تغيرت النظرة للثروة من المال والمعادن النفيسة والثروات الطبيعية إلى الخبرة والإدارة والانفتاح والتسامح والسعادة أيضا. لفت النظر شارع متسع فى دبى اسمه «شارع السعادة» وهذه تترجم ليس طبعا السعادة الزوجية، وإنما الرضا عن الحال، والرغبة فى تحسين التقدم إلى ما هو أفضل منه. دبى ودولة الإمارات تجمعان الخبرة العالمية، والعلم الدولى لديها، وهى جاهزة لكل أصحاب الأحلام الكبرى فى العمران والعمارة والولوج إلى آفاق لم تصل لها البشرية من قبل، وهذه فى حد ذاتها ثروة كبرى أن يأتى إليك المبدعين والمبتكرين والباحثين عن السعادة والتواجد فى مجتمع يعيش التسامح بين المسجد والكنيسة والمعبد لكل دين وملة. فصدق أو لا تصدق أن فى ذلك ثروة كبرى، فبين كل بلاد العالم لم تعد هناك بلدان كثيرة تجاوزت أحقادها التاريخية ويوم تدلف من مطار دبى إلى داخل المدينة لن تعدم الشعور أنك قد دخلت إلى سفينة نوح التى يوجد فيها كل الأجناس والألوان والأديان. كما أن الفقر فكرة بأنك لا تستطيع فعل شىء أو الحصول على شىء آخر، إلا إذا انتزعته من آخرين، فإن الثروة فكرة أيضا إذا ما كنت قادرًا على تنظيم العرض والطلب بكفاءة. وفى مقالات سابقة، وحتى قبل زيارتى الأخيرة لدبى، فإننى دعوت لأن تكون مدينتى العلمين على البحر المتوسط، وسفاجا على البحر الأحمر، مثل دبى؛ والآن فلا تزال الدعوة قائمة.
نقلا عن المصرى اليوم