فاروق عطية
قررّت أن أفعّل دوري كعضو الإدارة المنتخب للمدرسة وذهبت لمقابلة السيدة مديرة المدرسة التي استقبلتني هاشة باشة ومرحبة, وحين شرحت لها ما حدث ويحدث من مدرس اللغة العربية أبدت اندهاشها وعدم علمها بذلك وحمّلت ابنتي الخطأ أنها لم تخبرها بالأمر من بدايته حتي تقوّمه, وطلبت احضار المدرس لتحاسبه أمامي, وحين حضر أنكر ذلك جملة وتفصيلا وادعي أن ابنتي لا تحب اللغة العربية وتغادر الفصل برغبتها وأنها كسولة وكاذبة. وحين دافعت عن ابنتي أنها ليست بكاذبة وأنها لم تتعود الكذب طوال حياتها, انفعل المدرس واحمرت عيناه وانتغخت أوداجه وقال لي: إذن أنا الكذوب الجبان في نظرك, وانقض علي بلكمة أطاحت بمقلة عيني فصرخت من الألم وقمت من نومي مفزوعا مروّعا وام العربي تنظر إلي شذرا دون أن تنطق ببنت شفه.
زمان علي أيامنا ويا حسرتي علي هذا الزمان الأغبر عندما أتذكر أيامنا الخوالي بما فيها من حلو ومر, وما أكثر ما كان فيها من حلو وما أقل ما كان فيها من مر, حتي ما كنا نظنه مرا في حينه عندما كبرنا أحسسنا أن قسوته كانت في مصلحتنا ليجعل منا رجالا صلبي العود أقوياء الشكيمة مرفوعي الرأس مملوئين بالهمة والعزيمة. ومن الأحداث التي أحسست أنها كانت مرة في زماننا وما تيقنت بعد الكبر أنها لم تكن أبدا مرة ولا قاسية وخلاصتها ما سوف أرويه لكم في هذه السطور.
فى السنة الثالثة الابتدائي كان يدرسنا الحساب مدرس إسمه محمد سراج الدين, كان هذا المدرس عملاقا عريض المنكبين قاسى الملامح مفتول العضلات أبيض البشرة ذو شنب يقف عليه الصقر شديد البأس جهورى الصوت, وعندما ينفعل يحمر وجهه وعنقه كلون الدم لذلك كنا نسميه الديك الرومى, كان شديد الشبه والهيأة بالممثل القدير الراحل يوسف داوود, تعلمنا منه الدقة والنظام والإيجاز فى الإجابة. كان يعقد لنا إمتحانا فى نهاية كل أسبوع يضع فيه أسئلة عويصة تحتاج ليقظة وتنبه وحنكة فائقة لما تحتويه من التواء وخداع, ومن يحصل منا على أقل من 35 من 50 عليه أن يلتحق بمجموعة التقوية. وكانت المجموعة تتم فى المدرسة بعد الحصة السابعة مقابل 35 قرشا فى الشهر (وكانت هذه الـ 35 قرشا مبلغا كبيرا لا بأس به). كثير من الزملاء دخلوا مجموعة الديك الرومى للتقوية ماعدا إثنين هما محمد صابر وأنا, حيث كانت نتيجة اختباراتنا لا تقل عن 40 من50. ذات يوم حصل محمد صابر على درجة أقل من المعتاد وهى 35 من 50 فعاتبه الديك الرومى منبها أياه باحتمال تدهور نتائجه مستقبلا. فاغتاظ صديقى (محمد صابر) وقال مشوحا بيده: هى 35 درجة وحشة؟. إنطلق الديك الرومى إلى غرفة المدرسين وعاد وفى يده خيزرانة غليظة فى آخرها صامولة حديدية وانهال على صديقى ضربا وهو يقول: كمان تبقى غبى وتشوح لى بإيدك يا ابن الأبالسة. وأثناء الضرب إنفصلت الصامولة عن الخيزرانة ووقعت بين قدمى فأمسكتها ومددت يدى بها للأستاذ فازداد حنقه وترك صديقى وانهال على ضربا وهو يقول: وانت مالك يا ابن الكلب. ثلاث خيزرانات نلتها جعلتنى طريح الفراش لمدة يومين.
أما محمد صابر الذى نال الكثير من الضرب لم نره لمدة أسبوع, وعندما ذهبت لمنزله للاطمئنان عليه علمت أن درجة حرارته قد ارتفعت لدرجة خطيرة مما دعى والده لنقله لمستشفى الحميات. مكث بالمستشفى ثلاثة أيام بعدها فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها وكان التشخيص "حمى شوكية" وإن كنت في داخلي وإن كنت غير متخصص طبيا ولكني موقن أنها حمى ديكرومية.
كان عم صابر والد صديقى يعمل بالبلدية عربجى على عربة رش الشوارع بالماء لمنع الأتربة وكسر حدة القيظ صيفا (عربة فنطاس مملوء بالماء بمؤخرتها رشاش ويجرها حصان). كان عم صابر رجلا طيبا يضع كل آماله فى إبنه صابر, يحلم باليوم الذى يراه فيه موظفا ذو قيمة وأبهة مثل سكرتير البلدية مثلا, ولكن القدر لم يرحمه واختطف منه الأمل فأصابه الاكتئاب والحزن الشديد. زرته ذات يوم فوجدته طريح الفراش يئن, فحاولت أن أسرى عنه قائلا: يا عم صابر إبنك محمد الآن فى نعيم الفردوس مع الأنبياء والقديسين وأولياء الله الصالحين, وإذا كنت قد فقدت إبنك فنحن كلنا أولادك. طفرت الدموع من عينيه واحتضننى قائلا: نعم كلكم أولادى وأنت أعزهم عندى. بعدها بأيام قلال توفى عم صابر ليلحق بإبنه, ولن أنسى ما حييت صديقى محمد ولا أبوه عم صابر رحمهما الله وأسكنهما فسيح
رجاء مفقزد
ليتنا نرجع كما كنا زمان
نلهوا ونمرح ونغني بأمان
في كل مكان.. في كل أوان
يحلو لنا فيه المرح
تغمرنا همسات الفرح
لا حزن.. لا قلق..لا أوهام
بل الفلاحة والحب والاحلام
ليتنا نضحك للشمس
ليتنا نسمع كل همس
أوراق الشجر تهفهف لنا
الطيور تزقزق محلقة حولنا
تشدو بأعذب الألحان
تنثر البهجة والصفاء
مسرورة تحلق في العلى
تقول هلموا حلقوا مثلنا
نشهد الفراشات حولنا
ترقص نشوانة بالهنا