بقلم: رشدى دميان
لم تحظَ أية صيحة من صيحات الملابس والأزياء بمثل ما حظت به ظاهرة الحجاب وذلك منذ أن ألبس الله آدم وحواء أقمصة من جلد لكي يسترا بها عُرْيَهُمَا بعد أن كانا قد سقطا في خطيئة عدم إطاعة وصاياه؟
فقط كانت مجرد أقمصة من جلد لكلٍّ منهما وليس أكثر من ذلك؟! وكانت هذه هي بداية تاريخ ومعرفة الأزياء والملابس بالنسبة للجنس البشري، ومن المؤكد أنه لم يكن بين تلك الأزياء والملابس حجاب لكي تغطي به حواء شعرها!! ولا نقاب لكي تختفي فيه بأسرها !! ذلك لأن حـواء كانت وستظل هـي هـي حـواء سواء كشفت شعرها أو غطته، وسواء رضيت بالنقاب زِيًا أو رفضته!!
والذى يسترعي الانتباه في هذه الظاهرة هو الربط المباشر والصريح والذي لا يحتمل أي تأويل آخر بين كلمة الحجاب وبين المرأة المسلمة، بل والربط أيضًا بين الحجاب وبين كل ما هو يتعلق بالدين الإسلامى عمومًا؟!

بدأت ظاهرة الحجاب في الانتشار في الدول العربية بشكلٍ مميز ولافت للأنظار وذلك في الربع الأخير من القرن العشرين وبالتحديد بعد الحرب الأخيرة بين مصر وإسرائيل التي تُعرف بـ "حرب أكتوبر المجيدة" عام 1973.
هذه الحرب التي كانت بين مصر وإسرائيل في شكلها الظاهر والمُعْلَنْ !! ولكن في شكلها الباطن والخفى كانت بين القوى المهيمنة على الاقتصاد العالمي من ناحية، وبين الدول العربية التي تمتلك مصادر الثروات الطبيعية ومن أهمها بل وعلى رأسها النفط ومشتقاته من ناحية أخرى.
ومن أهم نتائج هذه الحرب على الإطلاق التغييرات الاقتصادية والمالية التي شملت العالم كله سلبًا وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وأيضًا الدول الآسيوية!! كما شملت هذه التغييرات معظم الدول العربية إيجابًا وبخاصة الدول المنتجة منها للبترول؟!
كانت أزمة البترول قد بدأت بالتحديد في 15 أكتوبر 1973 وذلك عندما قامت منظمة الدول العربية المصدرة للبترول ( أوبك ) بإعلان حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة والدول الغربية وذلك بسبب مواقفهم المعلنة صراحة والمؤيدة للجانب الإسرائيلي، ومن هنا ظهرت على الساحة العالمية والدولية سياسـة ولـعبـة ( خُذْ وهات) !! واستخدمت الدول العربية الورقة الرابحة في هذه اللعبة ألا وهي ورقة رفع أسعار البترول الخام وكل مشتقاته، مما عاد بالتالي بالنفع المادي والاقتصادي عليها.

وانتهت نظرية السيطرة والهيمنة التي كانت تنتهجها دول القوى العظمى التي تمتلك القرارات المؤثرة بالإضافة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية، علاوة على كل إمكانات المخترعات الحديثة، وإهتزت قلاعها الصناعية التي تعتمد في المقام الأول على البترول ، وكان لا بد لهذه الدول العظمى من تقديم التنازلات وأن تنحني وتُقَبِّل الأقدام وتُبْدِي نَدَمَهَا على ما أخطأت به في حَق الأغنام!! بسبب الأساليب التي كانت تتعامل بها مع الدول العربية من استعلاءٍ وكبرياءٍ وغطرسةٍ كانت تصل أحيانًا إلى الغزو والبطش، لأنها - أي الدول العظمى - كانت تفرض على الدول العربية ما تراه لا يتعارض مع مصالحها بالدرجة الأولى حتى ولو على حساب كرامة وسيادة هذه الدول على أراضيها، ومن هنا بدأت لعبة الغَزَلْ من طَرَف واحد!! غَزَلٌ بين الذئْاب والوحوش التي تكسرت أسنانها وتهشمت أنيابها خاصة بعد إعلان حظر تصدير البترول، وبين الدول العربية التي تمتلك الثروات المدفونة تحت الأراضى التي تسودها !! ومن هنا أيضًا بدأت شعوب الدول العربية - في ثورة غير مُعْلَنَةٍ وكرد فعل طبيعى للانتقام - في تطبيق قانون ( وعلى الباغى تدور الدوائر ) !! ولكن في حذرٍ وفى ترقب وبتخطيطٍ مدروس وبأجندة سرية غير مُعْلَنَةٍ ؟! ولكنها تستند على فتاوى وأحكام شرعية ومُقَننَّة؟! عملاً بمـا جـاء في القرآن: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) وغيره مما أمر به الله والرسول والكتاب!!

وهكذا بدأت مرحلة جديدة من مراحل الغزو الإسلامى المستتر لمختلف دول العالم وذلك من خلال فرض الشخصية والرموز الإسلامية على مجتمعات هذه الدول، وكان من أبرز وأهم هذه الرموز هو الحجاب الذي  بدأ في الانتشار في الدول العربية في الربع الأخير من القرن العشرين، ثم إمتدت ظاهرة الحجاب إلى الدول الأوروبية وأمريكا وأستراليا وإلى معظم قارات العالم بعد أن نزح إليها أعداد كبيرة من المسلمين الذين خططوا لكى يستقروا في هذه المجتمعات وذلك لأسباب كثيرة، قليلها مُعْلَنٌ وصَرِيحٌ ومَكْشُوفٌ، وكثيرها سري ومكتوم وغير معروف؟!
كانت الديموقراطية وحرية الأديان والمعتقدات بالإضافة إلى شعارات حقوق الإنسان!! هي بعض من أوراق لعبة ( خُذْ وهات ) التي وضعت الدول - التي كانت عظمى - أصولها وقواعدها وشروطها!! ليس من أجـل ( سواد عيون ) هذه المبادئ؟! ولكن من أجل الحفاظ على البقية الباقية من هيبتها التي كادت أن تُمحى وتضيع بعد أن إنحنت الذئاب وقبَّلَتْ الأقدام، وبعد أن أبدت ندمها على ما أخطأت به في حق الأغنام!!

وأيضاً من أوراق لعبة ( خُذْ وهات )، علاوة على ما تتطلبه سياسة الغَزَلْ من تقديم كل التسهيلات والتنازلات!! كان أن فتحت الدول الغربية أبوابها على مصراعيها لكل من يريد دخولها من مواطني الدول العربية سواء للزيارة والسياحة، أو للاستثمار، أو للعلاج والاستشفاء، أو للدراسة وغيرها من المبررات التي تسمح بالدخول الرسمي المشروع من بوابات المطارات والموانيء إلى دول أمريكا والغرب!! ومُنِحَتْ التأشيرات وتصاريح الدخول لكل من هَبَّ ودَب!! وذلك خوفًا من التلويح والصراخ في مظاهرات التنديد والشجب وبالأكثر خوفًا على ما تبقى من المصالح الاقتصادية، وخشية من الاتهام بممارسة سياسة العنصرية؟!!
الصراع بين الخير والشر هو صراع أزلي وقديم منذ بدء الخليقة، ومنذ عصيان أبينا آدم وأمنا حواء لوصية الرب وعدم طاعته، ومنذ أن قتل قايين أخاه هابيل بسبب الغَيْرة والحسد والحقد والغضب والتذمر، ومنذ أن سيطرت على العقل والفكر البشري المفاهيم التي تنادي وتقول من هو الأعظم والأقوى والأفضل؟! بل ومن هو البار والتقي الذي  يحرص على الفضيلة وطاعة وصايا الإله الذي  خلقه؟! ومنذ أن بدأت الشكوى والصراخ والاعتراض والاحتجاج دائمًا ( لماذا هو وليس أنا ) ؟! ولأن الإنسان هو الإنسان، فهو لا يزال يصرخ ويعترض ويحتج أيضًا ويقول ( لماذا أنا وليس هو ) ؟!

وأيضًا لأن الإنسان هو الإنسان سواء كان من الذئاب أو من الأغنام، ولأن الذئب كان وسيظل ذِئْبًَا حتى بعد أن انحنى وقبَّل الأقدام وبدأ في مغازلة الأغنام!! ولأن الأغنام كانت قد وَعَتْ واختبرت وعَرِفَت مكر ودهاء الذئاب، فلذلك كان عليها أن تتذئَّبْ هي أيضًا  لكي لا تقع فريسة لها مرة أخرى، مستخدمة في ذلك كل الأسلحة بما فيها سلاح التدين في مواجهة هذا الغَزَلْ المفاجئ من الغرب نحو الدول العربية، وكان استخدام سلاح التدين بالذات هو بمثابة الخنجر الموجه ناحية الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الغربية، ذلك لأن الغرب عامة هو بمثابة العضو الكافر في جسد الإنسانية والذى يجب هدايته وتقويمه، أو بتره وتحطيمه؟!
وهكذا بدأ الغزو الإسلامى والعربى للكُفَّار في معاقلهم وأبراجهم ؟! بل وفى عقر ديارهم ومنازلهم ؟!
هذا الغزو لم يكن بالمعنى الحربي والقتالي المعروف - وإن كان هذا المعنى مُدْرَجًا في الأجندة الغير معلنة كما أسلفت القول - ولكنه عبارة عن غزو فكري وعقائدي يعتمد على فرض الرموز الدينية استنادًا على مباديء حرية العقيدة والإيمان، وعلى المبادئ التي تكفلها الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان !! 

هذا الغرب الكافر الذي كان قد أذَّلَ شعوب الدول العربية على مدى القرون والحقب المختلفة في العهود الماضية، هذا الغرب قد جاء دوره ليشرب من نفس الكأس التي شربت منه هذه الشعوب؟! ولكن بتكتيك وبأسلوب هادئ مُتَرَّوٍ وساكن؟! وباستراتيجية تعتمد على مبدأ الضرب على الحديد وهو ساخن!!
ولما كان الحجاب وهو أحد الرموز الدينية في الإسلام وأهمها - حتى ولو لم يوجد أي نص صريح لا في القرآن أو في السنة يؤكد على وجوب ارتداء النساء المسلمات للحجاب - كما أنه من أسهل أنواع الأسلحة المستخدمة في هذا الغزو المستتر، لذلك حرص دعاة الفكر الإسلامى على تثبيت مفهوم وجوب ارتداء الحجاب وأهميته للتأكيد على الفضيلة والعفة والطهارة التي تتحلى بها كل امرأة مسلمة دونًا عن كل نساء العالم وبخاصة نساء الغرب الكافرات!! لدرجة أن أحد الفقهاء كان قد أفتى بأنه يجب على المراة المسلمة أن ترتدي الحجاب حتى أمام امرأة كافرة !! لأنها - أي المرأة الكافرة - تعتبر في حكم الرجل الأجنبي!!

وهكذا أصبح الحجاب الذي هو رمز للتدين والطهارة والفضيلة بمثابة السلاح الأقوى والبَتـَّار؟! في مواجهة لعبة غَزَلْ الذِئَاب التي بدأها أعداء الإسلام الكفَّار!! وإن لم يكن كذلك؟ فلماذا إذن هذا التدين المفاجئ الذي  ساد العالم العربي الإسلامي بدءاً من الربع الأخير من القرن العشرين وحتى يومنا هذا وذلك من خلال ارتداء الحجاب علاوة على العمل بشتى الطرق والوسائل على إبراز الشخصية والرموز الإسلامية الأخرى على الساحة العالمية والدولية؟! ولماذا أصبح الحجاب ظاهرة تسترعي كل هذا الانتباه والجدل في نفس الوقت؟!
هذا ما سوف نتحدث عنه في مقالاتٍ متتابعة، وذلك لإعطاء كل ذي حق حقه، كما سنتناول في موضوع ظاهرة الحجاب فكرة هل هو حقيقة فضيلة من الفضائل، أم أنه مجرد شكل ووسيلة من الوسائل؟!