
المحاكمات الكنسية ... عود على بدء!!
كمال زاخر موسى
الأحد ٣١ اغسطس ٢٠٢٥
(1) الجذور
كمال زاخر
تمثل المحاكمات الكنسية واحدة من الإشكاليات المزمنة المُرَحَلّة، والتي شهدت واحدة من ذُراها، عقب خروج قداسة البابا شنودة الثالث من منفاه الاختياري "دير الأنبا بيشوي"، كواحدة من تداعيات القرار الرئاسي الذي اصدره الرئيس الأسبق أنور السادات، ضمن حزمة قرارات عنيفة، أعلنها في خطابه الأخير 5 سبانبر 1981، بالغاء قرار اعتماد الدولة لنتيجة انتخابه بابا وبطريرك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومن ثم قرار تعينه، لم تسمح ذاكرة البابا القوية له أن ينسى مواقف عديد من رموز الكنيسة خاصة في دائرة الكهنوت التي لم تَرُق له، وهو الذي قال يوماً؛ أستطيع أن أغفر لكن لا استطيع أن أنسى.
بدأ قداسته مرحلة ما بعد العودة بانتخاب سكرتير جديد لمجمع الأساقفة، وهو انتخاب بنكهة التعيين، ليتركه رفيق زمن خدمة مدارس الأحد والذي حين قصد الرهبنة اختار أن يكون اسمه الرهباني شنودة السرياني، ورسمه قداسته اسقفاً على ايبارشية الغربية باسم الأنبا يوأنس، لكنه لم ينس له قبوله عضوية اللجنة الخماسية التي شكلها السادات، لتدير شئون الكنيسة بعد قرار عزله. ليتولى الموقع بعده الأنبا بيشوي مطران دمياط، ليصبح عين ويد البابا في الكنيسة، ورَجُله الحديدي، واسند إليه مهمة محاكمة الكهنة المحالين للتحقيق بتعدد الأسباب، ومعه تشهد الكنيسة سلسلة من المحاكمات التي تنتهي باحالة الكاهن للتقاعد، أو عزله من رتبة الكهنوت، في محاكمات تفتقر لأبسط قواعد العدالة التي تتيح للمقدم اليها إبداء دفوعه وتفتقر للعلنية، وفيها يوقع المقدم اليها إقراراً سابق الإعداد بصحة ما هو منسوب إليه مع وعد بعودته لخدمته، وفي واحدة من تصريحات اسقف المحاكمات قال تندراً "بيسموني بيشّوي، من الشواء" وأعقب وصفه بضحكات مقدسة.!!
قدراً يرحل البابا ويرحل اسقف المحاكمات ويرحل كثيرون من ضحايا المحاكمات، وتجري في النهر مياه كثيرة، وتشهد الكنيسة مرحلة هدوء مشوبة بالحذر، فمازالت جذوة نيران عديدة تحت الرماد لم تنطفئ بعد، وتبقى المحاكمات الكنسية على وضعها بغير أطر قانونية، ويظل الأمر مرتهناً بقناعات البابا.
نعود لنجد انفسنا أمام نفس الأسئلة التى طرحت قبلاً، عن ماهية المحاكمات الكنسية وأطرها ودرجاتها التى تضمن توفر اقصى حدود العدالة، وضوابطها، بين صلاحيات من يقوم عليها وحماية المقدمين إليها من عسف استخدام السلطة.
اللافت أن كنيستنا حتى اللحظة لم تقترب من منظومة المحاكمات هذه بتقنينها ووضع قانون ينظمها ويضبط ايقاعها عبر مواد قانونية عامة ومجردة وملزمة، تخاطب اطرافها، المحقق والقاضى والشهود والمقدم اليها، وتحقق العدالة فى الاطار الكنسى، رغم أن ادبيات الكنيسة، بتدرجها، من الكتاب المقدس إلى ما استقر من قوانين الرسل إلى قوانين المجامع المسكونية، الى قوانين الأباء المعتبرين أعمدة، تناولت هذا الأمر وصارت مرجعيات ملزمة، ولكنها لم تترجم فى عمل قانونى معاصر كما فعلت بقية الكنائس التقليدية، وترك الأمر لتقدير الأب الأسقف وربما بأكثر تحديداً تترك لتقدير البابا البطريك.
وقد شهدت تلك السنوات التى تفجرت فيها أزمة المحاكمات الكنسية محاولات جادة، خارج منظومة الإكليروس، للاقتراب المنهجى والموضوعى، تبلورت فى سلسلة المؤتمرات العامة التى عقدها التيار العلمانى القبطى (2006 ـ 2010)، والتى تضمنت ضمن اطروحاتها بحوثاً تناولت تقنين المحاكمات الكنسية، وقدمت للكنيسة فى حبرية قداسة البابا شنودة الثاالث، مشروع قانون ينظمها، عكف على اعداده وصياغته المستشار لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة، واعيد تقديمه لقداسة البابا تواضروس عقب اعلان اختياره ضمن ملف كامل عن رؤية التيار العلمانى فى الاشكاليات الكنسية وقتها، فضلاً عن دراسة مستفيضة وموثقة قدمها أحد الاباء الرهبان الباحثين فى المؤتمر العلمانى القبطى الأول (نوفمبر 2006) بعنوان (التأديبات الكنسية فى الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسى).
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحد من أهم الكتب التى تناولت بتدقيق وتوثيق أهم المحاور التدبيرية الكنسية ومنها "القضاء الكنسى"، وهو كتاب (التدبير الإلهى فى بنيان الكنيسة) ديسمبر 2001، اعداد أحد رهبان برية القديس مقاريوس. (بحسب البيانات التى حملها غلاف الكتاب في طبعته التي في حيازتنا.)
يبقى أن نطرح تصور لما يجب أن تكون عليه المحاكمات (التأديبات) الكنسية فيما أشرنا إليه من وثائق، وهو موضوع الجزء الثاني من مقالنا، غداً الإثنين.