
حكاية واعتذار وحلم! [1]
كمال زاخر موسى
السبت ١٦ اغسطس ٢٠٢٥
كمال زاخر موسى
السبت 16 أغسطس 2025
(بين اوراقي القديمة وجدت هذه السطور، والتي كانت مقالاً نشر بجريدة "الأهرام المسائي" بتاريخ 28 ديسمبر 2009، وجدتها وكأن مداد سطورها لم يجف، والزمن لم يبرح مكانه، فما أشبه اليوم بالبارحة، تغيرت الوجوه، وبقيت المواقع، تفرض نهجها على القادمين الجدد).
ادعو قارئى اليوم لمشاغبة فكرية تخرج بنا من نسق المصادمات المصنوعة التى غالباً ما تفتقر للموضوعية وتقع فى حسابات التوازنات التى تأخذ اطرافها إلى اللا تلاقى، وتثير كثير من الغبار فى مناخ هو بطبيعته لا يستسيغ ثقافة الحوار حتى إلى درجة رفض الآخر فى توحد مع الذات وإعلاء للأنا.
فى مطلع ستينيات القرن الماضى كنت اجلس فى صفوف صبية مدارس الأحد، كان المدرس شاب وسيم مثقف استطاع أن يجمعنا حوله بحب وأبوة تتجاوز سنى شبابه المبكر، كنا نسميه الحكواتى، قال يوماً أن ثرياً يعيش فى واحدة من ضواحى العاصمة المتميزة لاحظ ان شحاذاً يجوب المنطقة عند الغروب يومياً وهو يصيح "خطيتك ياآدم .. خطيتك ياآدم"، بلا كلل أو ملل، استدعاه يوما مستفسراً، اجابه : ياسيدى كل ما أنا فيه من عناء سببه أبونا آدم لذا فأنا لا أكف عن عتابه!!، ألم يكن قادراً على مقاومة فضوله اللحظى وقتذاك والذى بسببه طردنا نحن الى الارض حيث الشقاء والألم والمعاناة والموت؟،.
حاول المضيف أن يهون عليه، ودعاه للعشاء معه، بُهت الشحاذ من الدعوة ومن المأكولات والأطعمة ـ كماً ونوعاً ـ وقبل أن يهم بالأكل، إستأذنه المضيف لإضطراره للخروج لدقائق معدودات يعود بعدها ليشاركته المأدبة والحوار، وترك له حرية ان يأكل هو دون انتظار، على ألا يقرب من إناء بغطاء حتى يأتى. خرج المضيف وانشغل الشحاذ بالإناء المغطى، اشمعنى ده ؟ يعنى هو فيه إيه زيادة؟ تردد للحظات بين إطاعة التوجيه وبين شغفه للمعرفة؟، وأخيراً حسم أمره، لإكشف الغطاء ثم أعيده مرة اخرى، ولا من شاف ولا من دري، رفع الغطاء فإذا بعصفور ينطلق من تحته ويطير خارج القصر!!، أُسقط فى يد الرجل ولم يكن امامه إلا ان يتسلل على اطراف اصابعه الى خارج القصر، المفاجأة أنه فى اليوم التالي كان الشحاذ يجوب المنطقة عند الغروب وهو يصيح "خطيتك ياآدم .. خطيتك ياآدم!!".
كان الثرى يود أن يطمئنه أن آدم عاد الى رتبته الأولى كنتيجة لفداء المسيح الذى اتمه حال تجسده وموته وقيامته، وأنه إذا كان فى آدم مات الجميع ففى المسيح سيحيا الجميع.
شئ من هذا حدث معى وأجدنى مطالباً بتقديم اعتذار لأطرافه، فقد كنت اتوقف كثيراً أمام شخصية وقورة ولها وضعها الدينى والإجتماعى، ويتميز صاحبها بالصدق مع النفس والبحث الدؤوب عن الحقيقة، لكنه كان بحكم المناخ السائد يحسب بدقة خطواته على خلفية وضعيته الدينية والإجتماعية، عن نيقوديموس اتحدث، وهو أحد الشخصيات التى عاصرت السيد المسيح والتقت به، يُعرِّفه الإنجيل بأنه من الفريسيين ـ المدققين فى تطبيق احكام التوراة بحروفها الى حد التشدد بل والتطرف ـ وكان من رؤساء اليهود، كان له حوار لاهوتي ممتد مع السيد المسيح غاية فى العمق كشف لنا مفهوم الولادة الجديدة كمدخل للفوز بملكوت السموات، لكن مع هذا كنت اعتب عليه أنه لم يملك الجرأة لمقابلة المسيح فى وضح النهار، خوفاً من العاصفة التى يمكن أن تقتلعه بفعل ضغط الرأى العام، إذ يذكر الكتاب فى اكثر من موضع أنه كان يلتقى المسيح "ليلاً وسراً."!!!
وعندما انطلقت فعاليات التيار العلمانى، حُسِبت عند كثيرين عملاً مناوئاً للكنيسة، وكنا نتفهم هذا على خلفية التراجع الثقافى المجتمعى وتسيد الثقافة السماعية والتى عندما تتجذر تقودنا إلى شيوع نسق القطيع الذى سلم قياده لمن يوجهه وهو نسق تلمسه قابعاً فى العالم الثالث، وزاد من وطأة الأمر الإيمان عندهم بنظرية المؤامرة، وسط هذا الهياج كان هناك شعاع يخترق تلافيف ظلمات الفكر المتراجع، تكونت جزيئات الشعاع من الاتصالات المتتالية من رموز مشهود لها فى دائرة الإكليروس القبطى؛ أباء اساقفة وكهنة وشمامسة، كان شرطهم أن تبقى بعيدة عن الأنظار، تجدد معها فى داخلى عتاب نيقوديموس، لكننى انتبهت الى عدم امكانية تغافل الضغوط المجتمعية، فى مناخ معاش يمكن ان تصل الى حد الإقصاء والإبعاد، لشخوص يمثلون أمل فى مستقبل أكثر استنارة وانفتاحاً واحتراماً لحق الاختلاف دون أن تصنع منه خلافاً، خاصة وأن شعاع التنوير قد وجد له مكاناً بين الأجيال الواعدة المحسوبة نصف الحاضر وكل المستقبل، ويبقى تفهم توجيه السيد المسيح عبر مثل زائر نصف الليل والذى ثابر فى الحاح على طرحه فاستجاب له صاحب البيت الذى قصده. لذا اجدني معتذراً لكل من تفهم دعوتنا وناقشنا فيها بموضوعية ، وكانت رؤيتهم أن اشد ساعات الليل حلكة تلك التى تسبق الفجر.
فى غضون هذا تأتينى رسالة من شاب يمثل جيل المستقبل تحمل سطوراً من مناجاة تحمل عنوان "الحلم" للأب سـابا مطران بُصرى حوران وجبل العرب والجولان للرّوم الأرثوذكس ـ نقلا عن افتتاحية العدد الثاني _ السنة التاسعة (2009) لنشرة "العربيّة" التي تصدر عن المطرانية تقول بعض سطورها :
• أحلم بكنيسة سيّدها يسوع المسيح وحده.
• أحلم بكنيسة أعضاؤها يسعون إلى حياة البر في كل حين.
• أحلم بكنيسة شبابها يرى حيوية حياته تتدفّق من حضنها.
• أحلم بكنيسة ينعم شيوخها بدفء حضنها في غروب حياتهم.
• أحلم بكنيسة راسخة في تراثها وحاضرة على الدوام لمواجهة كل جديد.
• أحلم بكنيسة تُفسح المجال للروح القدس كي يفعل فيها.
• أحلم بكنيسة لاتخنق الروح القدس تحت مسمّيات كثيرة, ولاتنسب إليه ما هو من ضعفها لكي تبرّر انحطاطها.
• أحلم بكنيسة آباؤها الروحيّون أطهار بكل ما في الكلمة من معنى.
• أحلم بكنيسة تُطلق شبابها ليحققوا نفسهم في المسيح فيها وبإرشادها , وأمقت كنيسة تُعلّم أبناءها أنّ سبيلهم إلى الرب لايكون إلا بطاعة عمياء , تُفقدهم شخصيّتهم التي خلقهم الله عليها.
• أحلم بكنيسة تُلاقي العالم بروح الفرح.
• أحلم بكنيسة لاتحصر العالم ضمن جدرانها الأربعة , بل تنطلق إلى العالم لتجعله كنيسة.
• أحلم بكنيسة لاتدبّر أمورها بحكمة البشر بقدر ما تستلهم الروح في كل شيء.
• أحلم بكنيسة تترك لسيّدها القرار الأخير , وتسعى جهدها لمعرفة مدى تطابق قراراتها مع رؤياه تعالى.
• أحلم بكنيسة تطأ قدماها الأرض ولاتكلّ من التطلّع إلى السماء.
• أحلم بكنيسة تَخرج من مقياسها البشري كل يوم في سعي لتكون على قياس ربّها وسيّدها.
• أحلم بكنيسة تُسخّر المال لخدمة شعب الله.
• أحلم بكنيسة لاينحصر همّها في الحجر , بل تعي أن الكنيسة الحقيقية هي تلك الحيّة.
• أحلم بكنيسة تُشارك المؤمنين همومهم وهواجسهم.
• أحلم بكنيسة واحة تعزية في صحراء هذا العالم.
• أحلم بكنيسة تعرف كيف تفرح بالرب وتنقل فرحها هذا إلى الناس.
• أحلم بكنيسة تميّز سلام المسيح من سلام هذا العالم.
• أحلم بكنيسة تعيش ملء الحياة.
• أحلم بكنيسة قياميّة.
• أحلم بكنيسة تُعطي المشاركة أولويّة رعائية.
• أحلم بكنيسة تعرف لغة هذا الدهر فتنقل البشارة بأسلوب يفهمه السامعون.
• أحلم بكنيسة تختبر عيش المحبّة كلّ يوم.
• أحلم بكنيسة تستوعب مواهب أبنائها في إطار تكامل لاتنافس.
• أحلم بكنيسة لاتُفرّق بين إكليريكيين وعلمانيين. بل تعتبر الجميع كهنوتا ملوكياً.
• أحلم بكنيسة لاترضى أقل من القداسة , ولاتعمل إلاّ لتطعيم الحياة بملكوت السماوات.
• أحلم بكنيسة لاتُسيّرها الاعتبارات البشرية.
• أحلم بكنيسة يتساوى فقراؤها وأغنياؤها بالقيمة والاحترام.
• أحلم بكنيسة لاتكفّ عن العمل من أجل تحقيق ملكوت الله هنا والآن.
• أحلم بكنيسة تكون جسد المسيح الممدود في الأرض.
• وقانا الله كنيسة مؤسّسة تُميت سيّدها وتبقي على اسمه.
وبين الحكاية والإعتذار والحلم يتكون جنين سعينا لغد أفضل.