الأقباط متحدون - عمل النعمة
  • ٢٠:٠٦
  • الاربعاء , ٢٣ يوليو ٢٠٢٥
English version

عمل النعمة

الراهب القمص يسطس الأورشليمى

مساحة رأي

٥٢: ١١ ص +03:00 EEST

الاربعاء ٢٣ يوليو ٢٠٢٥

الأب يسطس الأورشليمى
الأب يسطس الأورشليمى

بقلم الأب يسطس الأورشليمى
"أعرف أن أتضع، وأعرف أيضاً أن أستفضل في كُل شيءٍ،  وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص" (في12:4).. 
 
هذا هُو عمل نعمة الله أن تهب المُؤمن أن يُمارس حياة التواضع كشركة مع الرّب في تواضعه، وأن يشعر بفيض عطايا الله عليه، فلا يشعر بالاكتفاء فقط، وإنما بالشُوق الحقيقي للعطاء بلا توقف..

كما يقُول الرسُول: كفقراء ونحنُ نُغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحنُ نملكُ كُل شيءٍ (2كو10:6)، فهو يحمل طبيعة العطاء فيفيض حباً وحنواً وسلاماً وعطاءً مادياً ونفسياً ورُوحياً، وفي هذا كُله يعرف أن يتواضع، لأنه يُدرك أن ما يُقدمه ليس من عنده، بل هُو عطية الله له لأجل إخوته، لذلك يقُول: أستطيع كُل شيءٍ في المسيح الذي يُقويني..

ما كان يمكن أن يتمتع بهذا الشعُور الداخلي بالشبع، ولا أن يفيض على الغير بذاته، إنما هي قُوة المسيح العاملة فيه، فالنجاح ليس من عنده، بل هُو نجاح المسيح الذي يعطيه القُوة..

غير أنكُم فعلتُم حسناً إذ اشتركتُم في ضيقتي..

وكأنه يقُول: مع تمتعي بعطية الاكتفاء وعدم الاحتياج إلى أحد، لكنكُم تستحقُون المديح لأنكُم شاركتمُوني آلامي واحتياجاتي، شهُوة قلبي أن أرى الكُل مملوء حباً، لكن ليس عن طمع من جانبي..

لقد شاركوه آلامه بالحُب وعبرُوا عن هذا بالعطاء وسط ضيقاته، فيقدر تعب محبتهُم وتصرفهُم بشهامة وكرم ونبل.. 

في ضيقتي، يعبر عن الفاقة والعسر والحاجة التي كان يعاني منها الرسُول في سجنه، وهو يُريد أن يعطيهُم الدرُوس الرُوحية أولاً، ويأتي بهُم إلى الفرح، ثم يُقدم شكره لهُم بعد ذلك في الرسالة..

وإذ يرى الذين يُقدمُون العطايا، مَن يتسلمها لا يتعاطف معهُم بل يحتقر عطاياهُم، يسقطُون بالأكثر في حالة بلادة، لذلك عالج الرسُول بُولس هذا الأمر لأن ما قاله قبلاً حط من أفكارهُم المتشامخة المتكبرة، وما جاء بعد ذلك أنعش استعدادهُم للعمل، إذ يقُول لهُم:

غير أنكُم فعلتُم حسناً إذ اشتركتُم في ضيقتي، كيف استبعد نفسه ثم عاد فاتحد بهُم، وهذا هُو دُور الصداقة الرُوحية..

يقُول: لا تظنُوا أني في غير احتياج، أو لست مُحتاجاً إلى عملكُم هذا، بل مُحتاجاً إليه من أجلكُم، وهُو أمر أسمى..

لم يقل: أعطيتمُوني، بل اشتركتُم، حتى يظهر أنهُم هُم أيضاً انتفعُوا، إذ صارُوا شركاء في أتعابه، ولم يقل: خففتُم، بل اشتركتُم في ضيقي..

وأنتُم أيضاً تعلمُون أيها الفيلبيُون، أنه في بداءة الإنجيل، لما خرجت من مكدونية، لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ، إلا أنتُم وحدكُم، راجع الكتاب المُقدس (15)..

في بدء كرازة الرسُول بُولس في مكدونية، لم تشترك كنيسة ما في احتياجاته أثناء كرازته سوى الكنيسة في فيلبي، وهُم لم يُساهمُوا في احتياجاته عندما كان في فيلبي فقط، وإنما أرسلوا إليه حين ذهب إلى كورنثوس، أنظر الكتاب المُقدس (2كو8:11-10)..

فقد فعل أهل فيلبي هذا دُون أية كنيسة أخرى، وكانُوا هُم المبتدئين في ذلك، إذ يقول معلمنا بُولس: في بداءة الإنجيل.. 

أنهم أعلنُوا دُون غيرهُم عن مساندتهُم للرسُول بكُونهُم المبادرين بالعمل دُون وجُود أي مثال يقتدُون به، حاملين هذا الثمر..

ماذا يعني العطاء والمشاركة ؟!
إنه موضُوع شركة، يقُول: إن كُنا زرعنا لكُم الرُوحيات، أفعظيم إن حصدنا منكُم الجسديات؟! ومرة أخرى يقُول: تكُون فضالتكُم لإعوازهُم.. 

راجع (1كو11:9؛ 2كو14:8)، كيف شارك هُؤلاء؟!

بالعطاء في الجسديات وقبُول الرُوحيات، فكما أن الذين يبيعُون ويشترُون يشاركُون بعضهُم البعض بالعطاء المُشترك، هكذا الأمر هُنا، تبدأ على الأرض وتتم في السماء..

فإنكُم في تسالونيكي أيضاً، أرسلتُم إلى مرةً ومرتين لحاجتي..

إذ كان ينشىء الكنيسة في تسالونيكي كان يُسدد احتياجاته هُو ومَن معه جزئياً بعمل يديه، (تس9:2؛ 2تس7:3-9)، والباقي بالمعُونة التي ساهمت بها الكنيسة في فيلبي، وقد جاء النص اليوناني حاجات وليس حاجتي، لأنه كثيراً ما أبرز الرسُول أنه لا يحثهُم على العطاء عن احتياج، بل لنفعهُم وخشي لئلا يُصابُوا بحالة فتُور في المشاعر، وإحباط في رغبة العطاء، لذا أكد أنهُم أرسلوا لأجل إشباع الاحتياجات..

ليس أني أطلُب العطية، بل أطلُب الثّمر المُتكاثر لحسابكُم..

لم يشته الرسُول أية عطية من أحد، لكن ما يشتهيه ثمر الرُوح فقط المُعلن عملياً بالعطاء وسد احتياجات الخدمة.. 

كُل ما يقدمه الإنسان من صدقة، وتواضع يُضاف إلى حسابه في الملكُوت، وإن كان حسب الظاهر إن الرسُول هُو الذي تسلم عطاياهم، لكن الحقيقة إن الله هُو الذي تسلم هذه العطايا..

يوجد فرق بين مَن كان في عوز ولا يطلب شيئاً، وبين مَن يكُون في عوز ولا يحسب نفسه أنه في عوز، لذلك يقول الرسُول: ليس إني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المُتكاثر لحسابكُم، لست أطلب ما هُو لي، هذا أقُوله لأجلكُم، وليس من أجلي وإنما لخلاصكُم، فإنني لست أربح شيئاً عندما أأخذ، إنما النعمة يتمتع بها الذين يعطُون..

ولكني قد استُوفيت كُل شيءٍ واستفضلت، قد امتلأت إذ قبلت من أبفرُودتُس الأشياء التي من عندكُم، نسيم رائحةٍ طيّبةٍ، ذبيحةً مقبُولةً مرضيةً عند الله، راجع الكتاب (16-18) ..

يُعبر عن سخاء أهل فيلبي، إذ قدمُوا ليس فقط احتياجاته، بل وما فضل عنه، فامتلأ لا بالعطاء بل بنسمة الحُب القادمة من قلوبهُم، واشتم من عملهُم ذبيحة مقبُولة مقدمة لله موضع سرُوره..

قال: ليس إني أطلب، ولئلا يُصابُوا بحالة فتُور في العطاء، أضاف: ولكني قد استوفيت واستفضلت، أي خلال تلك العطية، وبهذا يجعلهُم أكثر غيرة، فالذين يقدمُون إحسانات كلما كانُوا أكثر حكمة يطلبُون، فيمن يتقبل العطاء أن يكُون شاكراً، وقد وصف عطاياهم بالآتي:
(1) رائحة طيبة..   (2) ذبيحة مقبُولة..   (3) مُرضية لله..

هذه الأوصاف تُطابق أوصاف العهد القديم التي كانت تُشير إلى ذبيحة الصليب بجوانبها الخمس، فيقول: نسيم رائحة طيبة، هي رائحة المحّبة التي قدمها أبناء المسيح، لخادم الرّب يسُوع..

تنسم الرّب رائحة زكية، حيث تُشير إلى مَن هُو فرح ومسرُور.. 

حقاً أنتُم تعرفُون كيف أن نفُوسنا تتأثر بالرُوائح الزكية، كيف تُسر وتبتهج، وهكذا فليست الشحُوم والبخُور هي التي تجعل الذبيحة مقبُولة، بل غاية قلب وفكر مَن يقدمها، لأن الله ينظر أولاً إلى القلب..

قد امتلأت إذ قبلت من أبفرُودُتس الأشياء التي من عندكُم، نسيم رائحة طيبةٍ، ذبيحةً مقبولةً مرضيةً عند الله (في18:4)..

تأمل في دانيال، وفي الرّب يسُوع وامرأة أمسكت في ذات الفعل.. 

ففي قصة دانيال رأينا الحُب الذي بلا قُوة أمام القانُون، وفي قصة الزانية نرى القانُون الذي بلا قُوة أمام الحُب..

فداريُوس الملك لم يُفكر أن يُلقي بنفسه بين الأسُود بدلاً من دانيال البريء الذي أحبه، ولكن الرّب يسُوع قبل فرحاً أن يمُوت بدلاً من الزانية المُقضي عليها بالمُوت، فأي نعمة يُقدمها الرّب يسُوع للخطاة؟!

فيملأ إلهي كُل احتياجكُم بحسب غناه في المجد في المسيح يسُوع..

إذ هُم كيلوا للرسُول بكيل الحُب الفائض، يُكيل لهُم الله حسب غناه حتى يتمتعوا بأمجاد سماوية، بفيض في المسيح يسُوع.. 

لم يتركُوا الرسُول في عوز، فلن يتركهُم الله في احتياج إلى شيء، لا يستطيع بُولس أن يفي لهُم الدين، لكنه قدم الصك لمُرسله يسُوع المسيح، الذي وحده قادر أن يفي عن رسله وتلاميذه وخدامه..

حسب غناهُ في المجد، أي حسب هبته المجانية، فهي بالنسبة له سهلة وممكنة وسريعة، فالرّب يُعطي الفقير حسب فقره القليل، ويُعطي الغني حسب غناه الكثير، والملك يُعطي حسب عظمته أكثر، فما بالك بملك الملوك إذا وهب ؟! راجع الكتاب المُقدس (في19:4)..

ونلاحظ أن: صفة المجد ملازمة لله منذ الأزل وإلى الأبد، فالله ممجد من ذاته لا يستمد مجده من أحد، ثم يقُول الرسُول: أبينا، فنحنُ نتعامل مع أبٍ، عينه علينا يشعر بكُل احتياجاتنا ويهتم بنا..

    مُتبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسُوع المسيح، الذي قدمه الله كفارةً بالإيمان بدمه، لأن برّ الله ليس له أي شرُوط، وَمن يُقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً، فالنعمة أن تُلقى بذاتك في حضنه الأبُوي فيقُول: لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فُوجد (لو24:15؛ عب7:13)..

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع