
"دبلوماسية الركبتين": البابا فرنسيس وثورة روحية في قلب الأزمات الدولية.. مقال للأب أنتونيو سبادارو
محرر الأقباط متحدون
السبت ٣ مايو ٢٠٢٥
محرر الأقباط متحدون
"فرنسيس الإرث الكبير للدبلوماسية الروحية" هو عنوان مقال كتبه الكاهن اليسوعي أنتونيو سبادارو، المدير السابق لمجلة "شيفيلتا كاتوليكا"، يسلط الضوء على المهام التي قام بها البابا الراحل في السياق الدولي الراهن، وقد كانت مرفقة بالصلوات المسائية التي يرفعها برغوليو إلى الله متأملا بأحداث النهار.
استهل سبادارو مقاله مشيرا إلى أنه في التاسع من تشرين الثاني نوفمبر ١٩٨٩ سقط جدار برلين، عندما قام آلاف المواطنين بتدمير هذا الرمز الذي جعل منهم رهينة طيلة ثلاثين عاما. وكان ذلك اليوم يدل على بداية أفول نجم الأنظمة التوتاليتارية. وأبصرت النور مرحلة جديدة مطبوعة بالعولمة، مع أن هذه الظاهرة باتت تتسم اليوم باللامبالاة والصراعات، وهي مسألة تحدث عنها البابا فرنسيس في أكثر من مناسبة. وعلى الرغم من سقوط جدار برلين أشار الحبر الأعظم الراحل إلى وجود العديد من الجدران التي تفصل اليوم بين الأجيال، لاسيما بين الوالدين والأبناء.
بعدها توقف سبادارو عند المقابلة التي أجراها مع البابا فرنسيس في العام ٢٠١٣، بعد فترة وجيزة على انتخابه، عندما شبه الكنيسة بالمستشفى الميداني الذي يُشيد بعد معركة ما. وقد تفوه بهذه الكلمات وهو ينظر إلى الحرب العالمية الثالثة المجزّأة التي يشهدها العالم، وفي شباط فبراير ٢٠٢٢، مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا أصبحت هذه الحرب تشكل تحدياً بالنسبة للمنظومة الدولية، وصولا إلى التهديد باستخدام السلاح النووي.
ولفت إلى أن الأزمة العالمية التي نعيشها اليوم تتخذ أشكالا متعددة وتُترجم إلى صراعات وفرض رسوم جمركية وإقامة الأسلاك الشائكة، فضلا عن أزمات الهجرة، والأنظمة التي تسقط، ونشأة تحالفات جديدة وفتح مسارات تجارية توفر الغنى من جهة، لكنها تولّد توترات من جهة أخرى. وقد تطرق فرنسيس إلى هذه المواضيع كلها بالتفصيل، في خطاباته المتعددة إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، وفي مناسبات أخرى.
فيما يتعلق بالدور الذي لعبه البابا برغوليو على الساحة الدولية، كتب الكاهن اليسوعي أن هناك من نظروا إليه بإعجاب كشخصية ثوروية، وثمة من وصفوه بالماركسي أو الشعبوي. لكن فرنسيس لم يتأثر بهذه التسميات كلها، بل شاء أن يسلط الضوء على أهمية النشاط الدبلوماسي الفاتيكاني، وقام بإنشاء قسم جديد في أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان مخصص للسفراء البابويين، بهدف توفير المرافقة لهم والتعبير عن قرب البابا منهم، كما جاء في الرسالة التي وجهها فرنسيس إلى الكاردينال بارولين في تشرين الأول أكتوبر ٢٠١٧.
وتذكّر سبادارو أنه مرة سأل البابا عما إذا كان يريد أن يقيم إصلاحاً في الكنيسة الكاثوليكية، وأتى الجواب أنه لا يريد تطبيق الإصلاحات إنما يسعى إلى وضع المسيح في المحور، وهو من سيقوم بالإصلاحات اللازمة. وقد شاء برغوليو أن يفعل الشيء نفسه على الصعيد الدولي، إذ أراد أن يضع المسيح في محور العالم، وكان زعيماً روحياً مسيحيا، وتحدث عن السياسة والدبلوماسية من هذا المنطلق.
تابع الكاهن اليسوعي مقاله لافتا إلى أن فرنسيس كان يدرك واجباته في السياق الدولي، وقد نضج هذا الوعي عنده مع مرور السنين، وتميز بالتواضع، وحاول أن يضع المسيح في المقام الأول، وهذا ما جعل من برغوليو شخصية ثوروية، بمعنى أنه أراد أن يروّج لعمل الله في التاريخ، وهذا السعي هو ثوروي بحد ذاته. وقد قال في بداية حبريته إن المسيحي الذي لا يكون ثوروياً لا يكون مسيحيا. إذ عليه أن يكون ثوروياً بفعل النعمة، هذه النعمة التي يمنحها لنا الله بواسطة يسوع المسيح المصلوب والمائت والقائم من الموت. وهذا هو التحوّل الأعظم في تاريخ البشرية، كما يقول البابا الراحل بندكتس السادس عشر، لأنه يبدل قلب الإنسان.
بعدها كتب سبادارو أن حبرية البابا فرنسيس كانت نبوية لأنه عرف كيف يسلط الضوء على علاقة الزمن مع الله، وأعطى قيمة لهذه العلاقة. وكان فرنسيس، كشخص مؤمن، يدرك تماما أن العالم هو ورشة الله، ورافق كحبر أعظم المسارات التاريخية دون أن يبحث لنفسه عن مناصب النفوذ، وقد عرف بالتالي كيف يخوض الأزمات. واللافت أنه في خطابه إلى أعضاء الكوريا الرومانية لتبادل التهاني في عيد ميلاد العام ٢٠٢٠ تلفظ فرنسيس بكلمة "أزمة" ستا وأربعين مرة. وفي ذلك العيد الذي عاشه العالم في ظل الجائحة، قال فرنسيس إن الأزمة لم تعد تقتصر على الخطابات ونقاشات المفكرين، بل أصبحت واقعاً يعيشه الجميع.
في الختام ذكّر الكاهن اليسوعي بأن البابا الراحل تحمل مسؤولية المواقف التي تبناها، والتي تميزت بالوضوح وبالتنديد أحياناً، بعيداً عن التقليد الحذر الذي يميز النشاط الدبلوماسي. فقد تبنى مواقف منددة بالأنظمة الرأسمالية التي تحقق المكاسب على حساب الآخرين، وسلط الضوء على مأساة الهجرة، وتوقف عند عمليات الإبادة الأرمنية. وكان بمثابة صوت صارخ في البرية، كما يقول النبي أشعياء. ولم يتردد في مهاجمة من يغذون الحروب ويحققون من خلالها الأرباح. وندد بما يجري في غزة وأوكرانيا. وقد وصف مرة الدبلوماسية التي انتهجها بـ"دبلوماسية الركبتين"، لكونها ترتكز إلى الصلاة.